للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال أيضا: ثم القلب هو الأصل، فإذا كان فيه معرفة وإرادة سرى ذلك إلى البدن بالضرورة، لا يمكن أن يتخلف البدن عما يريده القلب. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب)) (١). وقال أبو هريرة: ((القلب ملك والأعضاء جنوده فإذا طاب الملك طابت جنوده وإذا خبث الملك خبثت جنوده)) (٢). وقول أبي هريرة تقريب. وقول النبي صلى الله عليه وسلم أحسن بيانا؛ فإن الملك وإن كان صالحا فالجند لهم اختيار قد يعصون به ملكهم وبالعكس، فيكون فيهم صلاح مع فساده أو فساد مع صلاحه، بخلاف القلب فإن الجسد تابع له لا يخرج عن إرادته قط، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد)) (٣).

فإذا كان القلب صالحا بما فيه من الإيمان علما وعملا قلبيا، لزم ضرورة صلاح الجسد بالقول الظاهر والعمل بالإيمان المطلق، كما قال أئمة أهل الحديث: قول وعمل: قول باطن وظاهر، وعمل باطن وظاهر. والظاهر تابع للباطن لازم له، متى صلح الباطن صلح الظاهر، وإذا فسد فسد، ولهذا قال من قال من الصحابة عن المصلي العابث: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه) (٤).

وقال: (وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ)) (٥) فبين أن صلاح القلب مستلزِمٌ لصلاح الجسد، فإذا كان الجسد غير صالح دلّ على أن القلب غير صالح، والقلبُ المؤمن صالح، فعُلم أنّ من يتكلم بالإيمان ولا يعمل به، لا يكون قلبه مؤمنا، حتى إن المكره إذا كان في إظهار الإيمان فلابد أن يتكلم مع نفسه، وفي السر مع من يأمن إليه، ولابد أن يظهر على صفحات وجهه، وفلتات لسانه، كما قال عثمان، وأما إذا لم يظهر أثر ذلك، لا بقوله ولا بفعله قط، فإنه يدل على أنه ليس في القلب إيمان، وذلك أن الجسد تابع للقلب، فلا يستقر شيء في القلب إلا ظهر موجَبه ومقتضاه على البدن، ولو بوجه من الوجوه) (٦).

وقال ابن مفلح: قال الشيخ تقي الدين: فأخبر أن صلاح القلب مستلزم لصلاح سائر الجسد، وفساده مستلزم لفساد سائر الجسد. فإذا رُأي ظاهر الجسد فاسدا غير صالح، عُلم أن القلب ليس بصالح بل فاسد. ويمتنع فساد الظاهر مع صلاح الباطن، كما يمتنع صلاح الظاهر مع فساد الباطن؛ إذ كان صلاح الظاهر وفساده ملازما لصلاح الباطن وفساده.

قال عثمان رضي الله عنه: ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه. (٧).

وقال الشيخ حافظ الحكمي: (ومحال أن ينتفي انقياد الجوارح بالأعمال الظاهرة مع ثبوت عمل القلب. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ)) (٨). ومن هنا يتبين لك أن من قال من أهل السنة في الإيمان هو التصديق على ظاهر اللغة، أنهم إنما عنوا التصديق الإذعاني المستلزم للانقياد ظاهرا وباطنا بلا شك، لم يعنوا مجرد التصديق) (٩).

٧ - وروى ابن أبي شيبة عن الحسن قال: إن الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني، إنما الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل. (١٠).

وجملة القول: أن التلازم بين الظاهر والباطن فرقان بين أهل السنة والمرجئة في باب الإيمان، وأن من عرف هذا التلازم زالت عنه شبهات كثيرة في مثل هذه المواضع التي كثر اختلاف الناس فيها (١١) الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير- ١/ ٣٢٦


(١) رواه البخاري (٥٢) ومسلم (١٥٩٩) من حديث النعمان بن بشير بلفظ: « ... أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ».
(٢) رواه عبد الرزاق في ((المصنف)) (١١/ ٢٢١)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (١/ ١٣٢).
(٣) رواه البخاري (٥٢) ومسلم (١٥٩٩) من حديث النعمان بن بشير بلفظ: ( ... أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ).
(٤) ((مجموع الفتاوى)) (٧/ ١٨٧). وما ذكره من استلزام الإيمان المطلق، يأتي بيانه في الجواب عن الشبهة السادسة من شبهات المخالف العقلية.
(٥) رواه البخاري (٥٢) ومسلم (١٥٩٩).
(٦) ((مجموع الفتاوى)) (١٤/ ١٢١).
(٧) ((الآداب الشرعية)) (١/ ١٦١).
(٨) رواه البخاري (٥٢) ومسلم (١٥٩٩).
(٩) ((معارج القبول)) (٢/ ٥٩٤).
(١٠) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (ص: ٣٠٣٥١، ٣٥٢١١)، ورواه ابن بطة في ((الإبانة)) (٢/ ٨٠٥)، وإسناده صحيح. انظر: ((أقوال التابعين في مسائل التوحيد والإيمان)) (٣/ ١١٢٤) (١٣٣٣).
(١١) ((مجموع الفتاوى)) (٧/ ٦٤٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>