للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومما يلحق بذلك أيضاً أن يتعرض المرء للإنكار الذي يفتن بسببه وهو لا يطيق الفتنة. وقد تكون سبباً في انحرافه فهو رجل ضعيف! ولمثله يقال: لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة: ٢٨٦] وقد ألحق بعض أهل العلم في الأحوال التي يكون فيها محرماً ما كان يلحقه الضرر من جرائه مع علمه أنه لا يفيد (١)، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث حذيفة –رضي الله عنه ((لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه: قالوا: وكيف يذل نفسه؟! قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيقه)) (٢). وذهب آخرون منهم ابن العربي (٣) إلى أنه يقدم حتى في هذه الحال. وقد رد عليه القرطبي (٤) ذلك ومنعه.

وأقبح من هذا كله أن يأتي من يفسد بعض المنكرات – والتي يترتب على تغييرها مفاسد أعظم- بكسر أو طلاء على الصور التي في أسواق الناس وسبلهم .. ثم يختفي بحيث لا يعرف من قام بهذا العمل .. فينقم الناس على كل المتمسكين بدينهم حتى من تناءت دياره عن ديارهم آلاف الأميال .. بل إن ذلك قد يؤدي بكثير منهم إلى كراهية الدين والنفرة منه .. وهذا مشاهد. فما قيمة زوال صورة من الصور إزاء هذه المفاسد العظيمة –إن كانت تقع- المترتبة عليه!!

ولا ينبغي الاحتجاج –والحال هذه- بتحطيم إبراهيم –صلى الله عليه وسلم- الأصنام فإن الجواب عن ذلك من وجوه متعددة وهي:

الأول: أنه نبي يوحى إليه فيؤمن عليه الزلل في مثل هذا ..

الثاني: أنه كان معروفاً بينهم يشار إليه بالبنان .. بأنه داعية التوحيد والمنفر من عبادة الأوثان ولذلك أحضروه لما رأوا ما حصل بأصنامهم حيث قال بعضهم: سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء: ٦٠].

الثالث: أنه دعاهم بشتى الطرق والوسائل مع اختلاف الأحوال .. فلم يستجيبوا لدعوته فكان آخر الدواء الكي.

الرابع: أن هذا الفعل من إبراهيم –صلى الله عليه وسلم- هو عين الحكمة والصواب حيث زعزع يقينهم في تلك الآلهة المزعومة.

الخامس: لم يكن يترتب على فعل إبراهيم هذا ضرر على غيره من الموحدين – إن وجدوا معه في ذلك الوقت- والله أعلم.

هذا ويمكن أن نلخص الحالات التي يكون فيها محرماً فنجعلها أربعاً:

الأولى: أن يؤدي إنكار المنكر إلى فوات معروف أكبر منه .. كمن ينهي إنساناً عن التدخين ويفوت صلاة الجماعة، أو يؤدي ذلك إلى خروج الوقت وهو لم يصل.

الثانية: أن يؤدي إنكار المنكر إلى حصول منكر أكبر منه كما سيأتي في خبر شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- مع التتار الذين رآهم يشربون الخمر.

الثالثة: أن يكون الأمر بالمعروف يؤدي إلى فوات معروف أكبر منه. كمن يحث أخاً له على الصدقة على بعض الفقراء من غير الأقارب وهو يعلم أن هذا التصدق على حساب نفقته الواجبة على أهله وعياله! وكمن يكون في بلد خربتها الحروب – ولا زال العدو جاثماً على أرضها- فينادي بالتعمير مثلاً وهو يعلم أن هذا الأمر سيكون على حساب الجهاد ومواصلته.

الرابعة: أن يكون الأمر بالمعروف مؤدياً إلى حصول منكر أكبر منه. كمن يأمر غيره بالتبكير في الحضور إلى المسجد ويؤدي ذلك إلى امتناعه عن الصلاة بالكلية. وكمن يأمر حديث العهد بالإسلام بالختان ويغلب على ظنه ارتداده عن الإسلام.

هذا ومن الجدير بالذكر أن الذي يميز هذه الأمور ويفاضل بينها إنما هو من كان على قدر لا بأس به من العلم والفقه والبصيرة .. والناس يتفاوتون في هذا تفاوتاً كبيراً .. كما أن المسائل في هذا تتفاوت من حيث الوضوح للمحتسب وعدمه كما هو معلوم. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخالد بن عثمان السبت – ص ١١٥


(١) انظر: ((تفسير القرطبي)) (٤/ ٤٨).
(٢) رواه الترمذي (٢٢٥٤)، وابن ماجه (٣٢٥٩)، وأحمد (٥/ ٤٠٥) (٢٣٤٩١)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (٧/ ٤١٨) (١٠٨٢٤). قال الترمذي: حسن غريب، وقال البيهقي: تابعه سعيد بن سليمان النسيطي وعمر بن موسى الشامي عن حماد بن سلمة، وقال البغوي في ((شرح السنة)) (٦/ ٥٤٦): حسن غريب، وحسنه ابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (١٦٦). وقال أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (١/ ٧١٦): إسناده صحيح، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).
(٣) ((أحكام القرآن)) (١/ ٢٦٦ - ٢٦٧).
(٤) ((تفسير القرطبي)) (٤/ ٤٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>