للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالشكر بالقلب: الاعتراف بالنعم الباطنة والظاهرة للمنعم، وأنها منه وبفضله. وأنها وصلت إليه من غير ثمن بذله فيها, ولا وسيلة منه توسل بها إليه, ولا استحقاق منه لها، وأنها لله في الحقيقة لا للعبد (١)، قال جل وعلا: وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ [النحل: ٥٣].

أي ما يلابسكم من النعم على اختلاف أنواعها فهي منه سبحانه، والنعمة إما دينية وهي معرفة الحق لذاته ومعرفة الخير لأجل العمل به، وإما دنيوية (٢). فما (طاب العيش إلا بمنته، وكل نعمة منه في الدنيا والآخرة، فهي منه يمن بها على من أنعم عليه) (٣).

فأشرف الناس منزلة: أعرفهم بهذه المنة، وأعظمهم إقراراً بها، وذكراً لها، وشكراً عليها، ومحبة لله لأجلها، فهل يتقلب أحد قط إلا في منته؟

وقد جاء في الحديث ما يبين عظمة تذكر النعمة والاعتراف بها، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((سيد الاستغفار أن يقول: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شرما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. ومن قالها من النهار موقناً بها، فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها، فمات قبل أن يصبح، فهو من أهل الجنة)) (٤).

ويكرر صلى الله عليه وسلم الاعتراف بالنعمة في أدبار الصلوات في قوله: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله؛ لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون)) (٥).

فلله النعمة الظاهرة والباطنة، وله الفضل في كل شيء, وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [البقرة: ١٠٥].

فالعبد لا خروج له عن نعمته وفضله ومنه وإحسانه طرفة عين، لا في الدنيا ولا في الآخرة (٦). فهو المان بهدايته للإيمان، وتيسيره للأعمال، وإحسانه بالجزاء، كل ذلك مجرد منته وفضله بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ [الحجرات: ١٧] (٧). فإيجادهم نعمة منه، وجعلهم أحياء ناطقين نعمة منه، وإعطاؤهم الأسماع والأبصار والعقول نعمة منه، وإدرار الأرزاق عليهم على اختلاف أنواعها وأصنافها نعمة منه، وتعريفهم نفسه بأسمائه وصفاته وأفعاله نعمة منه، وإجراء ذكره على ألسنتهم ومحبته ومعرفته على قلوبهم نعمة منه، وحفظهم بعد إيجادهم نعمة منه، وقيامه بمصالحهم دقيقها وجليلها نعمة منه، وهدايتهم إلى أسباب مصالحهم ومعاشهم نعمة منه. وذكر نعمه على سبيل التفصيل لا سبيل إليه، ولا قدرة للبشر عليه (٨).

والشكر باللسان: الثناء بالنعم، وذكرها، وتعدادها، وإظهارها. قال سبحانه وتعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضُّحى: ١١].

وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر: ((من لم يشكر القليل، لم يشكر الكثير؛ ومن لم يشكر الناس، لم يشكر الله. التحدث بنعمة الله شكر، وتركها كفر)) (٩).


(١) ((الفوائد)) (ص: ١٦٧).
(٢) ((فتح البيان)) (٧/ ٢٥٧).
(٣) ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: ٣٣).
(٤) رواه البخاري (٦٣٠٦). من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه.
(٥) رواه مسلم (٥٩٤). من حديث عبدالله بن الزبير رضي الله عنه.
(٦) ((شفاء العليل)) (١/ ١٥٣).
(٧) ((مفتاح دار السعادة)) (٢/ ٥١٥).
(٨) ((شفاء العليل)) (١/ ٣٤٥).
(٩) رواه أحمد (٤/ ٢٧٨) (١٨٤٧٢)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (٦/ ٥١٦)، والمنذري في ((الترغيب والترهيب)) (٢/ ١٠٣): إسناده لا بأس به، وحسنه ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (١/ ٣٣٢)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (٥/ ٢٢٠): رجاله ثقات.

<<  <  ج: ص:  >  >>