للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد هجر النبي صلى الله عليه وسلم كعباً وصاحبيه وأمر الصحابة بهجرهم خمسين يوماً. وهجر نساءه شهراً. وهجرت عائشة –رضي الله عنها- ابن أختها عبد الله بن الزبير –رضي الله عنهما- مدة.

ورد عن كعب بن مالك –وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم- ((أنه لم يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط غير غزوتين غزوة العسرة وغزوة بدر. قال: فأجمعت صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى، وكان قلما يقدم من سفر سافره إلا ضحى. وكان يبدأ بالمسجد فيركع ركعتين، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامي وكلام صاحبي ولم ينه عن كلام أحد من المتخلفين غيرنا. فاجتنب الناس كلامنا. فلبثت كذلك حتى طال علي الأمر وما من شيء أهم إلى من أن أموت فلا يصلي علي النبي صلى الله عليه وسلم أو يموت الرسول صلى الله عليه وسلم فأكون من الناس بتلك المنزلة فلا يكلمني أحد منهم، ولا يصلى علي فأنزل الله توبتنا على نبيه صلى الله عليه وسلم حين بقي الثلث الآخر من الليل ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة .. )) (١) الحديث.

فهذا الحديث يثبت هجر رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة والصحابة لهم. ومن ناحية أخرى يثبت كيف كان لهذا الهجر الأثر الكبير في تركهم للمعروف وفعلهم للمنكر في ترك الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم الخروج معه.

وورد أن عائشة –رضي الله عنها- حدثت أن عبد الله بن الزبير قال في بيع أو عطاء أعطته عائشة: ((والله لتنتهين عائشة أو لأحجرن عليها. فقالت: أهو قال هذا؟ قالوا: نعم. قالت: هو لله علي نذر أن لا أكلم ابن الزبير أبداً فاستشفع ابن الزبير إليها حين طالت الهجرة. فقالت: والله لا أشفع فيه أبداً ولا أتحنث إلى نذري. فلما طال ذلك على ابن الزبير كلم المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث –وهما من بني زهرة- وقال لهما: أنشدكما بالله لما أدخلتماني على عائشة فإنها لا يحل لها أن تنذر قطيعتي. فأقبل به المسور وعبد الرحمن مشتملين بأرديتهما حتى اتسأذنا على عائشة فقالا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أندخل؟ قالت عائشة: ادخلوا قالوا: كلنا؟ قالت: نعم ادخلوا كلكم –ولا تعلم أن معهم ابن الزبير- فلما دخلوا دخل ابن الزبير الحجاب فاعتنق عائشة وطفق يناشدها ويبكي وطفق المسور وعبد الرحمن يناشدانها إلا كلمته وقبلت منه. ويقولان إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عما قد علمت من الهجرة فإنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال. فلما أكثروا على عائشة من التذكرة والتحريج طفقت تذكرهما وتبكي وتقول: إني نذرت والنذر شديد. فلم يزالا بها حتى كلمت ابن الزبير وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة. وكانت تذكر نذرها بعد ذلك فتبكي حتى تبل دموعها خمارها)) (٢).

وروي عن الإمام أحمد قال: إذا علم أنه مقيم على معصيته وهو يعلم بذلك لم يأثم إن هو جفاه حتى يرجع وإلا كيف يتبين للرجل ما هو عليه إذا لم ير منكراً ولا جفوة من صديق (٣).

وورد عن سفيان الثوري أنه قال لعلي بن الحسن السليمي:

إياك وما يفسد عليك عملك وقلبك، فإنما يفسد عليك قلبك أهل الدنيا وأهل الحرص وإخوان الشياطين الذين ينفقون أموالهم في غير طاعة الله، وإياك وما يفسد عليك دينك فإنما يفسد عليك دينك مجالسة ذوي الألسن المكثرين للكلام، وإياك وما يفسد عليك معيشتك، فإنما يفسد عليك معيشتك أهل الحرص وأهل الشهوات، وإياك ومجالسة أهل الجفاء، ولا تصحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي، ولا تصحب الفاجر ولا تجالسه ولا تجالس من يجالسه، ولا تؤاكله ولا تؤاكل من يؤاكله ولا تحب من يحبه، ولا تفشي إليه سرك ولا تبتسم في وجهه ولا توسع له في مجلسك فإن فعلت شيئاً من ذلك فقد قطعت عرى الإسلام. وإياك وأبواب السلطان وأبواب من يأتي أبوابهم وأبواب من يهوى هواهم، فإن فتنتهم مثل فتنة الدجال ... (٤).

فمن خلال النصوص القرآنية والأحاديث النبوية والآثار يتبين لنا مشروعية الهجر، وأنه سنة يثاب عليها الإنسان إذا كان ذلك لله تعالى. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأثرهما في حفظ الأمة لعبد العزيز المسعود – ص ٥٣٠


(١) رواه البخاري (٤٦٧٧).
(٢) رواه البخاري (٦٠٧٤).
(٣) ((الآداب الشرعية في المنح المرعية)). ابن مفلح (١/ ٢٥٨).
(٤) ((حلية الأولياء وطبقات الأصفياء)) م٤ (٧/ ٤٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>