لقد ترك هؤلاء الأخذ بالأسباب، فتركوا الصلاة والصيام، كما تركوا الدعاء والاستعانة بالله والتوكل عليه، لأنه لا فائدة منها، فالذي يريده الله ماض قادم لا ينفع معه دعاء ولا عمل. ورضي كثير من هؤلاء بظلم الظالمين وإفساد المفسدين، لأن ما يفعلوه قدر الله وإرادته. وتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يهتموا بإقامة الحدود والقصاص، لأن ما وقع من المفاسد والجرائم مقدر لا بدَّ منه. وقد عرض شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – لهذا الفريق ومعتقده وحاله في مواضع من كتبه، فقال: الذين اعترفوا بالقضاء والقدر، وزعموا أن ذلك يوافق الأمر والنهي، فهؤلاء يؤول أمرهم إلى تعطيل الشرائع والأمر والنهي، مع الاعتراف بالربوبية العامة لكل مخلوق، وأنه ما من دابة إلا ربي آخذ بناصيتها، وهذا هو الذي يُبتلى به كثيراً - إمّا اعتقاداً وإما حالاً - طوائف من الصوفية والفقراء حتى يخرج من يخرج منهم إلى الإباحة للمحرمات، وإسقاط الواجبات، ورفع العقوبات. وقال أيضاً فيهم: " هؤلاء رأوا أن الله خالق المخلوقات كلها، فهو خالق أفعال العباد، ومريد الكائنات، ولم يميزوا بعد ذلك بين إيمان وكفر، ولا عرفان ولا نكر، ولا حق ولا باطل، ولا مهتدي ولا ضال، ولا راشد ولا غوي، ولا نبي ولا متنبيء، ولا ولي لله ولا عدو، ولا مرضي لله ولا مسخوط، ولا محبوب لله ولا ممقوت، ولا بين العدل والظلم، ولا بين البر والعقوق، ولا بين أعمال أهل الجنة وأعمال أهل والنار، ولا بين الأبرار والفجار، حيث شهدوا ما تجتمع فيه الكائنات من القضاء السابق والمشيئة النافذة والقدرة الشاملة والخلق العام، فشهدوا المشترك بين المخلوقات، وعموا عن الفارق بينهما. وقد يغلو أصحاب هذا الطريق حتى يجعلوا عين الموجودات هي الله، ويمسكون بموافقة الإرادة القدرية في السيئات الواقعة منهم، كقول الحريري: أنا كافر برب يعصى، وقول بني إسرائيل:
أصبحت منفعلاً لما يختاره ... مني ففعلي كله طاعات
وقد يسمون هذا حقيقة باعتبار أنه حقيقة الربوبية. وعرض ابن القيم لهذه الفرقة وضلالاتها في كتابه القيم (شفاء العليل) فقال: ثم نبغت طائفة أخرى زعمت أن حركة الإنسان الاختيارية - ولا اختيار - كحركة الأشجار عند هبوب الرياح، وكحركات الأمواج، وأنه على الطاعة مجبور، وأنه غير ميسر لما خلق له، بل هو عليه مجبور ومقصور. ثم تلاهم أتباعهم على آثارهم مقتدين، ولمنهاجهم مقتفين، فقرروا هذا المذهب وانتموا إليه، وحققوه، وزادوا عليه أن تكاليف الرب تعالى لعباده كلها تكليف مالا يطاق، وأنها في الحقيقة كتكليف المقعد أن يرقى إلى السبع الطباق، فالتكليف بالإيمان وشرائعه تكليف بما ليس من فعل العبد، ولا هو بمقدوره، وإنما هو تكليف بفعل من هو منفرد بالخلق، وهو على كل شيء قدير، فكلف عباده بأفعاله، وليسوا عليها قادرين، ثم عاقبهم عليها، وليسوا في الحقيقة لها فاعلين. ثم تلاهم على آثارهم محققوهم من العُباد، فقالوا: ليس في الكون معصية البتَّة، إذ الفاعل مطيع للإرادة موافق للمراد، كما قيل:
أصبحت منفعلاً لما يختاره ... مني ففعلي كله طاعات
ولاموا بعض هؤلاء على فعله فقال: إن كنت عصيت أمره، فقد أطعت إرادته، ومطيع الإرادة غير ملوم، وهو في الحقيقة غير مذموم، وقرر محققوهم من المتكلمين في هذا المذهب بأن الإرادة والمشيئة والمحبة في حق الرب سبحانه هي واحدة، فمحبته هي نفس مشيئته، وكل ما في الكون فقد أراده وشاءه، وكل ما شاءه فقد أحبه.