فإن قيل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال: ((لا عدوى. قال رجل: يا رسول الله الإبل تكون صحيحة مثل الظباء، فيدخلها الجمل الأجرب فتجرب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فمن أعدى الأول؟)) (١) , يعني أن المرض نزل على الأول بدون عدوى، بل نزل من عند الله ـ عز وجل ـ، فكذلك إذا انتقل بالعدوى فقد انتقل بأمر الله، والشيء قد يكون له سبب معلوم وقد لا يكون له سبب معلوم، فجرب الأول ليس سببه معلوماً، إلا أنه بتقدير الله تعالى، وجرب الذي بعده له سبب معلوم، لكن لو شاء الله تعالى لم يجرب، ولهذا أحياناً تصاب الإبل بالجرب، ثم يرتفع ولا تموت، وكذلك الطاعون والكوليرا أمراض معدية، وقد تدخل البيت فتصيب البعض فيموتون ويسلم آخرون ولا يصابون ...
وهذا الجمع الذي أشرنا إليه هو أحسن ما قيل في الجمع بين الأحاديث، وادعى بعضهم النسخ، فمنهم من قال: إن الناسخ قوله: (لا عدوى)، والمنسوخ قوله: (فر من المجذوم)، و (ولا يورد ممرض على مصح)، وبعضهم عكس، والصحيح أنه لا نسخ، لأن من شروط النسخ تعذر الجمع، وإذا أمكن الجمع وجب الرجوع إليه، لأن في الجمع إعمال الدليلين، وفي النسخ إبطال أحدهما، وإعمالهما أولى من إبطال أحدهما، لأننا اعتبرناهما وجعلناهما حجة، وأيضاً الواقع يشهد أنه لا نسخ.
وقوله: (ولا صفر). فيه ثلاثة أقوال سبقت، وبيان الراجح منها.
والأزمنة لا دخل لها في التأثير وفي تقدير الله ـ عز وجل ـ، فصفر كغيره من الأزمنة يقدر فيه الخير والشر، وبعض الناس إذا انتهى من شيء في صفر أرخ ذلك وقال: انتهى في صفر الخير، وهذا من باب مداواة البدعة ببدعة، والجهل بالجهل، فهو ليس شهر خير ولا شهر شر.
أما شهر رمضان، قولنا: إنه شهر خير، فالمراد بالخير العبادة، ولا شك أنه شهر خير، وقولهم: رجب المعظم، بناء على أنه من الأشهر الحرم.
ولهذا أنكر بعض السلف على من إذا سمع البومة تنعق قال: خيراً إن شاء الله، فلا يقال: خير ولا شر، بل هي تنعق كبقية الطيور.
فهذه الأربعة التي نفاها الرسول صلى الله عليه وسلم تبين وجوب التوكل على الله وصدق العزيمة، ولا يضعف المسلم أما هذه الأشياء، لأن الإنسان لا يخلو من حالين:
إما أن يستجيب لها بأن يقدم أو يحجم أو ما أشبه ذلك، فيكون حينئذ قد علق أفعاله بما لا حقيقة له ولا أصل له، وهو نوع من الشرك.
وإما أن لا يستجيب بأن يكون عنده نوع من التوكل ويقدم ولا يبالي، لكن يبقى في نفسه نوع من الهم أو الغم، وهذا وإن كان أهون من الأول، لكن يجب ألا يستجيب لداعي هذه الأشياء التي نفاها الرسول صلى الله عليه وسلم مطلقاً، وأن يكون معتمداً على الله ـ عز وجل ـ.
وبعض الناس قد يفتح المصحف لطلب التفاؤل، فإذا نظر ذكر النار تشاءم، وإذا نظر ذكر الجنة قال: هذا فأل طيب، فهذا مثل عمل الجاهلية الذين يستقسمون بالأزلام.
فالحاصل أننا نقول: لا تجعل على بالك مثل هذه الأمور إطلاقاً، فالأسباب المعلومة الظاهرة تقي أسباب الشر، وأما الأسباب الموهومة التي لم يجعلها الشرع سبباً بل نفاها، فلا يجوز لك أن تتعلق بها، بل احمد الله على العافية، وقل: ربنا عليك توكلنا.
قوله: (لا نوء). واحد الأنواء، والأنواء: هي منازل القمر، وهي ثمان وعشرون منزلة، كل منزلة لها نجم تدور بمدار السنة.
وهذه النجوم بعضها يسمى النجوم الشمالية، وهي لأيام الصيف، وبعضها يسمى النجوم الجنوبية، وهي لأيام الشتاء، وأجرى الله العادة أن المطر في وسط الجزيرة العربية يكون أيام الشتاء، أما أيام الصيف، فلا مطر.
(١) [٣٦١٥])) رواه البخاري (٥٧١٧) , ومسلم (٢٢٢٠) , من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.