للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأمرهم أن يقولوا: ما شاء الله، ثم شئت، فيكون الترتيب بثم بين مشيئة الله ومشيئة المخلوق، وبذلك يكون الترتيب صحيحاً، أما الأول، فلأن الحلف صار بالله، وأما الثاني، فلأنه جعل بلفظ يتبين به تأخر مشيئة العبد عن مشيئة الله، وأنه لا مساواة بينهما.

ويُستفاد من الحديث:

١ - أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على اليهودي مع أن ظاهر قصده الذم واللوم للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لأن ما قاله حق.

٢ - مشروعية الرجوع إلى الحق وإن كان من نبه عليه ليس من أهل الحق.

٣ - أنه ينبغي عند تغيير الشيء أن يغير إلى شيء قريب منه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يقولوا: ((ورب الكعبة) ولم يقل: احلفوا بالله، وأمرهم أن يقولوا: ((ما شاء الله، ثم شئت)).

إشكال وجوابه:

وهو أن يقال: كيف لم ينبه على هذا العمل إلا هذا اليهودي؟

وجوابه: أنه يمكن أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسمعه ولم يعلم به.

ولكن يقال: بأن الله يعلم، فكيف يقرهم؟

فيبقى الإشكال، لكن يجاب: إن هذا من الشرك الأصغر دون الأكبر، فتكون الحكمة هي ابتلاء هؤلاء اليهود الذين انتقدوا المسلمين بهذه اللفظة مع أنهم يشركون شركاً أكبر ولا يرون عيبهم.

وله أيضاً عن ابن عباس، أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت فقال: ((أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده)) (١).

قوله في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم. .. )). الظاهر أنه قاله للنبي صلى الله عليه وسلم تعظيماً، وأنه جعل الأمر مُفوضاً لمشيئة الله ومشيئة رسوله.

قوله: ((أجعلتني لله نداً؟!)). الاستفهام للإنكار، وقد ضمن معنى التعجب، ومن جعل للخالق نداً، فقد أتى شيئاً عجاباً.

والنِّد: هو النظير والمساوي، أي: أجعلتني لله مساوياً في هذا الأمر؟!

قوله ((بل ما شاء الله وحده)). أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يقطع عنه الشرك، ولم يرشده إلى أن يقول ما شاء الله ثم شئت حتى يقطع عنه كل ذريعة عن الشرك وإن بَعُدَت.

يستفاد من الحديث:

أن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ يقتضي مساواته للخالق شرك، فإن كان يعتقد المساواة، فهو شرك أكبر، وإن كان يعتقد أنه دون ذلك، فهو أصغر، وإذا كان هذا شركاً، فكيف بمن يجعل حق الخالق للرسول صلى الله عليه وسلم؟!

هذا أعظم، لأنه صلى الله عليه وسلم ليس له شيء من خصائص الربوبية، بل يلبس الدرع، ويحمل السلاح، ويجوع، ويتألم، ويمرض، ويعطش كبقية الناس، ولكن الله فضله على البشر بما أوحى إليه من هذا الشرع العظيم، قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ [الكهف: ١١٠]، فهو بشر، وأكد هذه البشرية بقوله: مِّثْلُكُمْ، ثم جاء التمييز بينه وبين بقية البشر بقوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: ١١٠]، ولا شك أن الله أعطاه من الأخلاق الفاضلة التي بها الكمالات من كل وجه أعطاه من الصبر العظيم، وأعطاه من الكرم ومن الجود، لكنها كلها في حدود البشرية، أما أن تصل إلى خصائص الربوبية، فهذا أمر لا يمكن، ومن ادعى ذلك، فقد كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وكفر بمن أرسله.


(١) رواه أحمد (١/ ٢١٤) (١٨٣٩) , والبخاري في ((الأدب المفرد)) (١/ ٢٩٠) , والنسائي في ((السنن الكبرى)) (٦/ ٢٤٥) , قال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (٣/ ٢٠٠): إسناده صحيح, وقال أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (٣/ ٢٥٣): إسناده صحيح, وصححه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (٦٠١).

<<  <  ج: ص:  >  >>