للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما الشبهة الثانية وهي أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده كما هو مشاهد اليوم، ولو كان ذلك حراماً لم يدفن فيه‍!

والجواب: أن هذا وإن كان هو المشاهد اليوم، فإنه لم يكن كذلك في عهد الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم لما مات النبي صلى الله عليه وسلم دفنوه في حجرته التي كانت بجانب مسجده، وكان يفصل بينهما جدار فيه باب، كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج منه إلى المسجد، وهذا أمر معروف مقطوع به عند العلماء، ولا خلاف في ذلك بينهم، والصحابة رضي الله عنهم حينما دفنوه صلى الله عليه وسلم في الحجرة، إنما فعلوا ذلك كي لا يتمكن أحد بعدهم من اتخاذ قبره مسجداً، كما ... في حديث عائشة وغيره (١)، ولكن وقع بعدهم ما لم يكن في حسبانهم! ذلك أن الوليد بن عبدالملك أمر سنة ثمان وثمانين بهدم المسجد النبوي وإضافة حُجر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، فأدخل فيه الحجرة النبوية حجرة عائشة، فصار القبر بذلك في المسجد (٢)، ولم يكن في المدينة أحد من الصحابة حينذاك خلافاً لما توهم بعضهم، قال العلامة الحافظ محمد بن عبدالهادي في (الصارم المنكي): وإنما أدخلت الحجرة في المسجد في خلافة الوليد بن عبدالملك، بعد موت عامة الصحابة الذين كانوا بالمدينة، وكان آخرهم موتاً جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، وتوفي في خلافة عبدالملك، فإنه توفي سنة ثمان وسبعين، والوليد تولى سنة ست وثمانين، وتوفي سنة ست وتسعين، فكان بناء المسجد وإدخال الحجرة فيه فيما بين ذلك (٣)، وقد ذكر أبو زيد عمر بن شبة النميري، في كتاب (أخبار مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم) عن أشياخه وعمن حدثوا عنه أن عمر بن عبد العزيز لما كان نائباً للوليد على المدينة في سنة إحدى وتسعين هدم المسجد وبناه بالحجارة المنقوشة، وعمل سقفه بالساج وماء الذهب وهدم حجرات أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فأدخلها في المسجد وأدخل القبر فيه (٤).


(١) رواه البخاري (١٣٩٠)، ومسلم (٥٢٩). ولفظه: ((لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). لولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خَشِيَ أو خٌشِيَ أن يتخذ مسجداً. من حديث عائشة رضي الله عنه.
(٢) انظر: ((تاريخ ابن جرير)) (٥/ ٢٢ - ٢٣)، و ((تاريخ ابن كثير)) (٩/ ٧٤ - ٧٥).
(٣) قال الألباني: وإنما لم يسم الحافظ ابن عبدالهادي السنة التي وقع فيها ذلك لأنها لم ترد في رواية ثابتة على طريقة المحدثين، وما نقلناه عن ابن جرير هو من رواية الواقدي وهو متهم، ورواية ابن شبة الآتية في كلام الحافظ ابن عبدالهادي مدارها على مجاهيل، وهم عن مجهول! كما هو ظاهر، فلا حجة في شيء من ذلك، وإنما العمدة على اتفاق المؤرخين على أن إدخال الحجرة إلى المسجد كان في ولاية الوليد، وهذا القدر كاف في إثبات أن ذلك كان بعد موت الصحابة الذين كانوا في المدينة حسبما بيَّنه الحافظ لكن يُعكّر عليه ما رواه أبو عبدالله الرازي في ((مشيخته)) (١/ ٢١٨) عن محمد بن الربيع الجيزري: توفي سهل بن سعد بالمدينة وهو ابن مائة سنة وكانت وفاته: سنة إحدى وتسعين وهو آخر من مات بالمدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. لكن الجيزري هذا لم أعرفه ثم هو معضل، وقد ذكر مثله الحافظ ابن حجر في ((الإصابة)) (٢/ ٨٧) عن الزهري من قوله: فهو معضل أيضاً أو مرسل، ثم عقبه بقوله: وقيل: قبل ذلك، وزعم ابن أبي داود أنه مات بالإسكندرية. وجزم في (التقريب): أنه مات سنة ٨٨ فالله أعلم. وخلاصة القول: أنه ليس لدينا نص تقوم به الحجة على أن أحداً من الصحابة كان في عهد عملية التغيير هذه، فمن ادّعى خلاف ذلك فعليه الدليل.
(٤) انظر: ((الصارم المنكي)) (ص١٣٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>