للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والبداءة بالشرعية لشرفها والندب إليها، ثم البدعية لكونها أخف جرماً من الشركية، ثم هي بعد ذلك. (فإن نوى الزائر) للقبور (فيما أضمره في نفسه) أي: كانت نيته بتلك الزيارة (تذكرة بالآخرة) أي ليتعظ بأهل القبور ويعتبر بمصارعهم إذ كانوا أحياء مثله يؤملون الآمال ويخولون الأموال، ويجولون في الأقطار بالأيام والليال، ويطمعون في البقاء ويستبعدون الارتحال، فبينما هم كذلك إذا بصارخ الموت قد نادى، فاستجابوا له على الرغم جماعات وفرادى، وأبادهم ملوكاً ونواباً وقواداً وأجناداً، وقدموا على ما قدَّموا غياً كان أو رشاداً، وصار لهم التراب لحفاً ومهاداً، بعد الغرف العالية التي كان عليها الحجاب أرصاداً، تساوى فيها صغيرهم وكبيرهم، وغنيهم وفقيرهم، وشريفهم وحقيرهم، ومأمورهم وأميرهم. اتفق ظاهر حالهم واتحد، ولا فرق للناظر إليهم يميز به أحداً من أحد. وأما باطناً فالله أكبر لو كشف للناظرين الحجاب، لرأوا من الفروق العجب العجاب، فهؤلاء لهم طوبى وحسن مآب، وأولئك في أسوأ حالة وأشد العذاب، فليعلم الواقف عليهم الناظر إليهم، أنه بهم ملتحق، ولإحدى الحالتين مستحق، فليتأهب لذلك، وليتب إلى العزيز المالك، وليلتجئ إليه من شر كل ما هنالك. (ثم) قصد أيضاً (الدعا) أي: دعاء الله عز وجل (له) أي لنفسه (وللأموات) من المسلمين (بالعفو) من الله عز وجل (والصفح عن الزلات) وكذا يدعو لسائر المسلمين بذلك (و) مع ذلك (لم يكن شد الرحال نحوها) الضمير للقبور لما في (الصحيحين) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)) (١). (ولم يقل هجراً) أي محظوراً شرعاً (كقول) بعض (السفها) لما في (السنن) من حديث بريدة قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فمن أراد أن يزور فليزر ولا تقولوا هجراً)) (٢) (فتلك) الإشارة إلى النوع المذكور من الزيارة (سنة) طريقة نبوية (أتت صريحة) أي واضحة ظاهرة (في السنن) أي الأحاديث (المثبتة) في دواوين الإسلام (الصحيحة) سنداً ومتناً، منها: حديث بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((وقد كنت نهيتك عن زيارة القبور، فقد أذن لمحمد صلى الله عليه وسلم في زيارة قبر أمه فزوروها، فإنها تذكر الآخرة)) رواه الترمذي وصححه (٣). وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال: ((استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزورها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت)) (٤). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال: ((السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)) رواه أحمد ومسلم والنسائي (٥). ولأحمد من حديث عائشة رضي الله عنها مثله وزاد: ((اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنّا بعدهم)) (٦).


(١) رواه البخاري (١١٩٧)، ومسلم (٨٢٧).
(٢) رواه النسائي (٤/ ٨٩)، وأحمد (٥/ ٣٦١) (٢٣١٠٢). وقال الألباني في ((صحيح سنن النسائي)): صحيح. وقال شعيب الأرناؤوط محقق ((المسند)): حديث صحيح.
(٣) رواه الترمذي (١٠٥٤). وقال: حديث حسن صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)): صحيح. وهو جزء من حديث رواه مسلم (١٩٧٧).
(٤) رواه مسلم (٩٧٦).
(٥) رواه مسلم (٢٤٩)، والنسائي (١٥٠)، وأحمد (٢/ ٣٠٠) (٧٩٨٠).
(٦) رواه أحمد (٦/ ٧١) (٢٤٤٦٩). قال ابن حجر في ((الفتوحات الربانية)) (٤/ ٢٢٢): حسن. قال شعيب الأرناؤوط محقق (المسند): إسناده ضعيف. وضعف هذه الزيادة الألباني في ((ضعيف سنن ابن ماجه)).

<<  <  ج: ص:  >  >>