للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثالث: أنه لو جعل آدم قبلة في سجدة واحدة؛ لكانت القبلة وبيت المقدس أفضل منه بآلاف كثيرة، إذ جعلت قبلة دائمة في جميع أنواع الصلوات، فهذه القصة الطويلة التي هي من أفضل النعم عليه، والتي رفعه الله بها، وامتن بها عليه؛ ليس فيها أكثر من أنه جعله كالكعبة في بعض الأوقات، مع أن بعض ما أوتيه من الإيمان والعلم، والقرب من الرحمن أفضل بكثير من الكعبة؛ والكعبة إنما وضعت له ولذريته؛ أفيجعل من جسيم النعيم عليه أو يشبه به في شيء نزر قليل جداً؟. هذا مالا يقوله عاقل (١).

وهذا السجود كان من جميع الملائكة؛ ملائكة السماء، وملائكة الأرض، وهذا ما قرره رحمه الله عندما سئل: هل سجد ملائكة السماء والأرض، أم ملائكة الأرض خاصة؟.

فأجاب رحمه الله: (بل أسجد له جميع الملائكة كما نطق بذلك القرآن في قوله تعالى: فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [ص: ٧٣]، فهذه ثلاث صيغ مقررة للعموم وللاستغراق؛ فإن قوله: الْمَلَائِكَةُ يقتضي جميع الملائكة؛ فإن اسم الجمع المعرف بالألف واللام يقتضي العموم؛ فهو رب جميع الملائكة.

الثاني: (كلهم) وهذا من أبلغ العموم، الثالث: قوله: أَجْمَعُونَ وهذا توكيد للعموم.) (٢).

ذكر من نقل الإجماع أو نص على المسألة ممن سبق شيخ الإسلام: اتفقت كلمة العلماء رحمهم الله تعالى على أن الملائكة عليهم السلام سجدوا لآدم عليه السلام.

والذي يدل على ذلك ما نقوله من الإجماع على أن سجود الملائكة لآدم عليه السلام لم يكن سجود عبادة.

قال أبو بكر بن العربي رحمه الله: (اتفقت الأمة على أن السجود لآدم عليه السلام لم يكن سجود عبادة) (٣).

وقال الفخر الرازي رحمه الله: (أجمع المسلمون على أن ذلك السجود ليس سجود عبادة) (٤).

وقرر ذلك القرطبي رحمه الله بقوله: (واختلف الناس في كيفية سجود الملائكة لآدم بعد اتفاقهم على أنه لم يكن سجود عبادة) (٥).

قلت: وفي إجماعهم على أن السجود لم يكن سجود عبادة، يؤخذ منه أنهم مجمعون على وقوع هذا السجود لآدم عليه السلام، وهو ما نقل عليه الإجماع شيخ الإسلام رحمه الله.

وقد بين الطبري رحمه الله أن السجود وقع من جميع الملائكة لا من بعضهم حيث قال: ( ... فلما سوى الله خلق ذلك البشر وهو آدم، ونفخ فيه من روحه، سجد له الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [ص: ٧٣]، يعني بذلك الملائكة الذين هم في السموات والأرض) (٦).

وهذا السجود كان لآدم عليه السلام على الحقيقة، خلافاً لمن زعم أن السجود كان لله وإنما جعل آدم عليه السلام قبلة، فقد أخرج الطبري عن قتادة رحمهما الله في تفسير قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ [البقرة: ٣٤] أنه قال: (فكانت الطاعة لله والسجدة لآدم، أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكته) (٧).

وقال البغوي رحمه الله: اسْجُدُواْ فيه قولان: الأصح أن السجود كان لآدم على الحقيقة، وتضمن معنى الطاعة لله عز وجل بامتثال أمره، وكان ذلك سجود تعظيم وتحية لا سجود عبادة) (٨).

مستند الإجماع في المسألة: الأدلة على سجود الملائكة لآدم عليه السلام كثيرة، وقد ذكر المولى تبارك وتعالى ذلك في سبعة مواضع من الكتاب العزيز.

قال الله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة: ٣٤].


(١) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (٤/ ٣٥٨، ٣٥٩) بتصرف.
(٢) ((مجموع الفتاوى)) (٤/ ٣٤٥) باختصار.
(٣) ((أحكام القرآن)) (١/ ٢٧).
(٤) ((التفسير الكبير)) (٢/ ٢١٢).
(٥) ((تفسير القرطبي)) (١/ ٣٣٣).
(٦) ((تفسير الطبري)) م١٢ (٢٣/ ٢٢٥).
(٧) ((تفسير الطبري)) م١ (١/ ٣٠١).
(٨) ((تفسير البغوي)) (١/ ٣٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>