٤ - أن المتقدمين من النصارى لم يشيروا إلى الأناجيل الأربعة، ولم يذكروها ألبته، فبولس- على كثرة رسائله- لم يذكرها في رسائله أبداً، وكذلك لم يذكرها سفر أعمال الرسل الذي ذكر دعاة النصارى الأوائل، وهذا يدلُّ على أن هذه الكتب لم تكن موجودة في ذلك الزمن، وأنها أُلِّفت وكتبت بعد ذلك.
٥ - أن أول من ذكر مجموعة من الكتب المدونة ذكراً صريحا هو جاستن الذي قتل عام (١٦٥) م، وهذا لا يدل صراحة على الأناجيل الأربعة نفسها، وأما أول محاولة للتعريف بها ونشرها فكانت عن طريق "تاتيان" الذي جمع الأناجيل الأربعة في كتاب واحد سماه (الدياطسرن) في الفترة من (١٦٦ - ١٧٠) م, وهذا هو التاريخ الذي يمكن أن يعزى إليه وجود هذه الكتب، وهو تاريخ متأخر جدًّا عن وفاة من تعزى إليهم هذه الكتب؛ إذ إنهم جميعاً ماتوا قبل نهاية القرن الأول، مما يدلُّ على أنهم برءاء منها، وأنها منحولة إليهم.
٦ - أنه حتى بعد هذا التاريخ- وهو (١٧٠) م, إلى القرن الرابع الميلادي- لم تكن الأناجيل الأربعة وحدها هي الموجودة، بل كانت هناك أناجيل كثيرة موجودة منتشرة ربما تبلغ مائة إنجيل، ولم يكن لأيٍّ منها صفة الإلزام والقداسة، وذلك أمر تكون الأناجيل الأربعة معه عرضة للتحريف والتغيير خلال تلك الفترة أيضاً.
٧ - أن النصارى لا يعرفون بالضبط تاريخ إعطاء هذه الكتب صفة الإلزام والقداسة، وإنما يرون أنه خلال القرن الرابع الميلادي أخذت كتبهم صفة القداسة بشكل متدرج، يعني: رويداً رويداً.
٨ - أن النصارى لا يملكون السند لكتبهم، ولا يعرفون مصدرها الحقيقي، ولا تعدو أن تكون كتباً وجدوها منحولة إلى أولئك الناس الذين نُسبت إليهم فنسبوها إليهم، واعتقدوا صحة ذلك بدون دليل، وهذا أمر لا يمكن أن يعطي النفس البشرية القناعة المناسبة لما تراد له هذه الكتب في الأصل من تجنب سخط الله وبلوغ رضوانه.
٩ - أننا نعجب غاية العجب من زعم النصارى: أن هذه الكتب حقيقية وصادقة، وتنقل بأمانة وإخلاص كلام المسيح، وتروي أخباره. كيف تجرؤوا على مثل هذا الكلام، وكيف قبله أتباعهم مع أنهم لا يملكون الدليل على ذلك، وكل دعوى عريت عن الدليل فهي باطله.
قال الله عزَّ وجلَّ: قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ [الأنعام:١٤٨].
وكل من تحدث في دين الله بلا علم فهو ضال مضل، قال عزَّ وجلَّ: وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ [الحج:٣]. وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج:٨ - ٩]. ولأن دعاويهم عارية عن الدليل فهي نابعة من الهوى، فلهذا سمى الله عز وجل ما عند اليهود والنصارى من دين أهواء في قوله عزَّ وجلَّ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ [البقرة:١٢٠]. ولكن ذلك العجب يذهب، وتلك الدهشة تزول إذا علمنا أن للآباء والكبراء والسادة من أهل الضلالة الذين يسعون إلى المحافظة على مكاسبهم الدنيوية الدور الأكبر في إضلال العوام والدهماء الذين لا يستخدمون ما وهبهم الله من عقل وسمع وإدراك، وإنما يتابعون وينقادون انقياد الأعمى، وفي هذا يقول الله عزَّ وجلَّ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ [المائدة:١٠٤].
وقال عزَّ وجلَّ: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا [الأحزاب:٦٦ - ٦٨]. والواجب على الإنسان أن لا يخضع للتقليد فيما تتعلق به نجاته وسعادته أو هلاكه وشقاوته، بل يتحقق من الأمر، ويتأكد من صحته، ويسأل الله الهداية والتسديد والرشد إلى أن يصل إلى الحق والنور الذي لن يخطئه بإذن الله تعالى إذا أخلص الطلب، واجتهد في الدعاء، وتحرَّر من الأهواء والتقليد والعصبية. دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية لسعود بن عبد العزيز الخلف – ص ٢٠٣