للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والحاصل أن في الحديثين ينهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التفضيل بين الأنبياء، وعن تفضيله على موسى ويونس خاصة - على حمل الحديث في يونس على أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المراد – وهو صلى الله عليه وسلم أفضل منهما ومن سائر الأنبياء وجميع الخلق قطعاً كما تقدمت الدلائل عليه من الكتاب والسنة والإجماع، وفي هذا إشكال ظاهر، وقد وجه العلماء ذلك النهي لإزالة الإشكال في أقوال متعددة، منها:

١ - أن النهي ورد قبل أن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيد ولد آدم وأفضل الأنبياء فلما علم أخبر به، وأن النهي عن التفضيل منسوخ بالقرآن (١).

إلا أن في هذا القول نظر كما يقول ابن كثير، قال: (لأن هذا من رواية أبي سعيد وأبي هريرة (٢)، وما هاجر أبو هريرة إلا عام حنين متأخراً، فيبعد أنه لم يعلم بهذا إلا بعد هذا والله أعلم) (٣)، وهو كما قال، بل والقول بالنسخ مردود، فإن التفاضل بين الأنبياء ,وفضل أولى العزم من الرسل منهم, وتفضيله صلى الله عليه وسلم على يونس، كل ذلك قد ورد في الآيات المكية في سورة الإسراء, والأحقاف, والقلم, وقصة حديث أبي سعيد وأبي هريرة وقعت في المدينة، وكذلك الحديث الآخر في يونس عليه السلام ورد من رواية أبي هريرة وابن عباس، وابن عباس على سبيل المثال، من صغار الصحابة توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث عشرة سنة وقد ورد أيضاً من رواية عبد الله بن مسعود.

٢ - أن النهي من باب التواضع وهضم النفس ونفي الكبر والعجب (٤). قال القاضي عياض: (وهذا لا يسلم من الاعتراض) (٥). وهذا التوجيه لا يتناسب مع قوله صلى الله عليه وسلم ((فقد كذب)) في رواية: ((من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب)) إن حمل الحديث على أن المراد بقوله ((أنا)) رسول الله صلى الله عليه وسلم (٦). فإذا حمل على أن المراد به من سواه صلى الله عليه وسلم، فإن لهذا التوجيه وجهه، خاصة مع قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أوصى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد)) (٧). ويكون مناسباً أيضاً مع قوله: ((ولا فخر)) في حديث ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر)) المتقدم ذكره.

٣ - أن النهي عن تعيين المفضول، أما تفضيل بعضهم على بعض في الجملة دون تعيين المفضول فهو دلالة النصوص، قاله ابن عطية (٨) واستشهد له بقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا سيد ولد آدم)) بإطلاق دون تعيين. ونقل القرطبي قول من قال: (إن النهي اقتضى منع إطلاق اللفظ لا منع اعتقاد ذلك المعنى، فإن الله أخبر بأن الرسل متفاضلون، فلا تقول: نبينا خير من الأنبياء، ولا من فلان النبي، اجتناباً لما نهي عنه، وتأدباً به, وعملاً باعتقاد ما تضمنه القرآن من التفضيل) (٩).


(١) ((الشفا)) (١/ ٢٢٦) و ((تفسير القرطبي)) (٣/ ٢٦٢) و ((شرح النووي لمسلم)) (١٤/ ٣٨) و ((فتاوى النووي)) (١٩٦) و ((فتح الباري)) (٦/ ٤٥٢) و ((تفسير ابن كثير)) (١/ ٣٠٥/).
(٢) يعني حديث قصة لطم الأنصاري لليهودي المتقدم ذكرها.
(٣) ((البداية والنهاية)) (١/ ٢٨٥).
(٤) ((تأويل مختلف الحديث)) (٧٩) ((الشفا)) (١/ ٢٢٧) و ((شرح صحيح مسلم للنووي)) (١٤/ ٣٨) و ((تفسير القرطبي)) (٣/ ٢٦٢) و ((تفسير ابن كثير)) (١/ ٣٠٥) و ((فتح الباري)) (٦/ ٤٥٢) و ((معالم السنن بهامش المختصر)) (٧/ ٤١).
(٥) ((الشفا)) (١/ ٢٢٧).
(٦) ((تحفة الأحوذي)) (٩/ ١١٩).
(٧) رواه مسلم (٢٨٦٥). من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه.
(٨) ((المحرر الوجيز)) (١/ ٣٣١ - ٣٣٢).
(٩) ((تفسير القرطبي)) (٣/ ٢٦٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>