أحدهما: أن هذه الموجودات مخترعة، وهذا معروف بنفسه في الحيوان والنبات، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ الآية [الحج: ٧٣]؛ فإنا نرى أجساماً جمادية ثم تحدث فيها الحياة، فنعلم قطعاً أن هاهنا موجداً للحياة, ومنعماً بها وهو الله تبارك وتعالى، وأما السموات فنعلم من قبل حركاتها التي لا تفتر أنها مأمورة بالعناية بما هاهنا ومسخرة لنا، والمسخر المأمور مخترع من قبل غيره ضرورة.
وأما الأصل الثاني: فهو أن كل مخترع فله مخترع, فيتضح من هذين الأصلين أن للموجود فاعلاً مخترعاً له، وفي هذا الجنس دلائل كثيرة على عدد المخترعات.
وكذلك كان واجباً على من أراد معرفة الله تعالى حق معرفته أن يعرف جواهر الأشياء ليقف على الاختراع الحقيقي في جميع الموجودات، لأن من لم يعرف حقيقة الشيء لم يعرف حقيقة الاختراع، ولهذا أشار تعالى وتقدس بقوله: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ [الأعراف: ١٨٥] وكذلك أيضاً من تتبع معنى الحكمة في موجود أعني معرفة السبب الذي من أجله خلق الغاية المقصودة به كان وقوفه على دليل العناية أتم. فهذان الدليلان هما دليل الشرع.
وأما أن الآيات المنبهة على الأدلة المفضية إلى وجود الصانع سبحانه في الكتاب العزيز هي مختصرة في هذين الجنسين من الدلالة, فهذا بين لمن تأمل الآيات الواردة في الكتاب العزيز في هذا المعنى، إذا تصفحت وجدت على ثلاث أنواع:
إما آيات تتضمن التنبيه على دلالة العناية.
وإما آيات تتضمن التنبيه على دلالة الاختراع.
وإما آيات تجمع الأمرين من الدلالة جميعاً.
فأما الآيات التي تتضمن دلالة العناية فمثل قوله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا – إلى قوله - وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا [النبأ: ١٦] ومثل قوله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا – إلى قوله - أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان:٦١] ومثل قوله تعالى: فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ [عبس:٢٤] ومثل هذا في القرآن كثير.
وأما الآيات التي تضمنت دلالة الاختراع فقط فمثل قوله تعالى: فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ [الطارق:٦] ومثل قوله تعالى: أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ الآية [الغاشية:١٧]، ومثل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ الآية [الحج: ٧٣] ومن هذا قوله حكاية عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ [الأنعام: ٧٩] إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى.