وفي موضع آخر من كتابه هذا التصريح ببعثة نبينا فقال بعد ذكر التبشير بالمسيح ما لفظه: (حتى أبعث نبي بني إسماعيل الذي بشرت به هاجر, وأرسلت إليها ملائكة فبشروها, فأوحى إلى ذلك النبي, وأعلمه السماء, وأزينه بالتقوى, وأجعل البر شعاره, والتقوى جهده, والصدق قوله, والوفاء طبيعته, والقصد سيرته, والرشد سنته, بكتاب مصدق لما بين يديه من الكتب, وناسخ لبعض ما فيها, أسري به إلي, وأرقيه من سماء إلى سماء حتى يعلو, فأدنيه, وأسلم عليه, وأوحي إليه, ثم أرده إلى عبادي بالسرور والغبطة, حافظاً لما استودع, صادعاً بما أمر, يدعو إلى توحيدي باللين من القول والموعظة الحسنة, لا فظ, ولا غليظ, ولا صخاب في الأسواق, رؤوف بمن والاه, رحيم بمن آمن به حتى على من عاداه) انتهى.
ولا ريب أن هذه صفات نبينا صلى الله عليه وسلم, وأنه لم يبعث الله نبياً من بني إسماعيل سواه, ومثل هذه الصفات ما في حديث عبد الله بن عمرو عند البخاري وغيره (أنه قيل له: أخبرنا ببعض صفة رسول الله في التوراة, قال: إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً, ومبشراً, ونذيراً, وحرزاً للأميين. أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل, لست بفظ, ولا غليظ, ولا صخاب بالأسواق, ولا يجزي بالسيئة السيئة, ولكن يجزي السيئة بالحسنة, ويعفو ويغفر, ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء, فأفتح به أعيناً عمياء, وآذاناً صماً, وقلوبا غلفاً بأن يقولوا: لا إله إلا الله).
قيل: قد يراد بلفظ التوراة جنس الكتب المتقدمة من التوراة, والزبور, والإنجيل, وسائر كتب أنبياء بني إسرائيل, فعلى هذا يكون المراد بقول عبد الله بن عمرو: (إنه لموصوف في التوراة) هذه الصفات المذكورة في نبوة دانيال, ولا مانع من أن تكون هذه الصفات كانت موجودة في التوراة فحذفتها اليهود, فما ذلك بأول تحريف وتبديل وتغيير منهم الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - ١/ ٥١٠