للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد صرح الحديث بأن ملك الموت يبشر المؤمن بالمغفرة من الله والرضوان، ويبشر الكافر أو الفاجر بسخط الله وغضبه، وهذا قد صرحت به نصوص كثيرة في كتاب الله، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ [فصلت: ٣٠ - ٣٢].

وهذا التنزُّل – كما قال طائفة من أئمة التفسير منهم مجاهد والسدي – إنما يكون حالة الاحتضار (١)، ولا شك أن الإنسان في حالة الاحتضار يكون في موقف صعب، يخاف فيه من المستقبل الآتي، كما يخاف على من خلَّف بعده، فتأتي الملائكة لتؤمنه مما يخاف ويحزن، وتُطَمئِنُ قلبه، وتقول له: لا تخف من المستقبل الآتي في البرزخ والآخرة، ولا تحزن على ما خلفت من أهل وولد أو دَيْنٍ، وتبشره بالبشرى العظيمة، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت: ٣٠]، وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ [فصلت: ٣١]، وما دام العبد قد تولى الله وحده، فإن الله يتولاه دائماً، وخاصة في المواقف الصعبة، ومن أشقها هذا الموقف، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [فصلت: ٣١]. أما الكفرة الفجرة فإن الملائكة تتنزل عليهم بنقيض ذلك إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا [النساء: ٩٧]، وقد نزلت هذه الآية كما أخرج البخاري عن ابن عباس في فريق أسلم، ولكنه لم يهاجر فأدركه الموت، أو قتل في صفوف الأعداء (٢)، فإن الملائكة تقرِّع هؤلاء في حال الاحتضار وتوبخهم، وتبشرهم بالنار.

وقد حدثنا ربنا عن توفي الملائكة للكفرة في معركة بدر فقال: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ - ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ [الأنفال: ٥٠ - ٥١].

قال ابن كثير في تفسير الآيات: (ولو ترى يا محمد حال توفي الملائكة أرواح الكفار لرأيت أمراً عظيماً فظيعاً منكراً، إذ يضربون وجوههم وأدبارهم، ويقولون ذوقوا عذاب الحريق) (٣).

وقد أشار المفسر المدقق العلامة ابن كثير إلى أن هذا وإن كان في وقعة بدر، ولكنه عام في حق كل كافر، ولهذا لم يخصصه تعالى بأهل بدر، بل قال: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ .. (٤).

وهذا الذي قاله ابن كثير صحيح يدل عليه أكثر من آية في كتاب الله تعالى، كقوله: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ [الأعراف: ٣٧]، وقوله: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل: ٢٨]، وقوله: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ [محمد: ٢٥ - ٢٧]. القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص ١٩


(١) ((تفسير الطبري)) (٢١/ ٤٦٦).
(٢) رواه البخاري (٤٥٩٦).
(٣) ((تفسير ابن كثير)) (٤/ ٧٦).
(٤) ((تفسير ابن كثير)) (٤/ ٧٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>