للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والمراد بسكرة الموت شدته وغمرته وغلبته التي تغشى الإنسان وتغلب على عقله، ومعنى (بالحق) أي من أمر الآخرة، فتبينه الإنسان حتى تثبته وعرفه، بمعنى أنه عند الموت يتضح له الحق، ويظهر له صدق ما جاءت به الرسل من الإخبار بالبعث، والوعد والوعيد، وقيل الحق هو الموت، فيكون المعنى: وجاءت سكرة الموت بحقيقة الموت، كما قرأ أبو بكر الصديق وابن مسعود (وجاءت سكرة الحق بالموت) (١).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( ... وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ أي جاءت بما بعد الموت من ثواب وعقاب، وهو الحق الذي أخبرت به الرسل، ليس مراده أنها جاءت بالحق الذي هو الموت؛ فإن هذا مشهور لم ينازع فيه، ولم يقل أحد: إن الموت باطل حتى يقال جاءت بالحق) (٢).

٥ - قوله تعالى: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الواقعة: ٨٣ - ٨٧] هذا دليل على سكرات الموت (٣)؛ فإن الله سبحانه وتعالى يقول: مهلاً إذا بلغت النفوس عند خروجها من أجسادكم، أيها الناس، حلاقيكم، ومن حضرهم منكم من أهليهم حينئذ إليهم ينظر، ونحن أقرب إليه بالعلم والقدرة والرؤية منكم، ورسلنا الذين يقبضون روحه أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون، فلولا إن كنتم غير مربوبين ومملوكين وغير مجزيين ترجعون تلك النفوس التي بلغت الحلقوم عند سكرات الموت إلى مقرها الذي كانت فيه، إن كنتم صادقين بأنكم غير مربوبين ولا مجزيين، ولن ترجعونها فبطل زعمكم (٤).

قال ابن كثير ت٧٧٤هـ في تفسير هذه الآيات: يقول تعالى فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ أي الروح الْحُلْقُومَ أي الحلق، وذلك حين الاحتضار، كما قال تعالى: كَلا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [القيامة: ٢٦ - ٣٠]؛ ولهذا قال هاهنا وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ أي: إلى المحتضر، وما يكابده من سكرات الموت وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ أي بملائكتنا وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ أي: ولكن لا ترونهم، كما قال تعالى في الآية الأخرى وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام: ٦١، ٦٢]، وقوله تعالى: فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا معناه فهلا ترجعون هذه النفس التي قد بلغت الحلقوم إلى مكانها الأول، ومقرها من الجسد، إن كنتم غير مدينين) (٥).

٦ - وقد روى ابن كثير ت٧٧٤هـ عن جماعة من السلف أن المراد بقوله تعالى وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا [النازعات: ١، ٢]: الملائكة حين تنْزع أرواح بني آدم، فمنهم من تؤخذ روحه بعسر، فتغرق في نزعها، ومنهم من تؤخذ روحه بسهولة، وكأنما حلته من نشاط (٦).


(١) ((تفسير الطبري)) (٢٦/ ١٠٠، ١٠١)، ((فتح القدير)) (٥/ ٧٥).
(٢) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (٤/ ٢٦٥).
(٣) انظر: ((التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة)) (١/ ٤١).
(٤) انظر: ((تفسير الطبري)) (٢٧/ ١٢٠، ١٢١)، ((تفسير البغوي)) (٤/ ٢٩٠، ٢٩١).
(٥) ((تفسير ابن كثير)) (٤/ ٣٠١).
(٦) ((تفسير ابن كثير)) (٤/ ٤٦٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>