للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويحتمل وجهاً آخر: وهو أن أبا طالب كان ممن عاين براهين النبي عليه السلام وصدق معجزاته، ولم يشك في صحة نبوته، وإن كان ممن حملته الأنفة وحمية الجاهلية على تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم ... ، فاستحق أبو طالب ونظراؤه على ذلك من عظيم الوزر وكبير الإثم أن باؤوا بإثمهم على تكذيب النبي عليه السلام، فرجا له عليه السلام المحاجة بكلمة الإخلاص عند الله، حتى يسقط عنه إثم العناد والتكذيب لما قد تبين حقيقته وإثم من اقتدى به في ذلك، وإن كان الإسلام يهدم ما قبله لكن آنسه بقوله: ((أحاج لك بها عند الله)) لئلا يتردد في الإيمان، ولا يتوقف عليه؛ لتماديه على خلاف ما تبين حقيقته، وتورطه في أنه كان مضلاً لغيره.

وقيل: إن قوله: ((أحاج لك بها عند الله) كقوله: ((أشهد لك بها عند الله)) (١)، لأن الشهادة المرجحة له في طلب حقه؛ ولذلك ذكر البخاري هذا الحديث في هذا الباب بلفظ (الشهادة)) (٢) لأنه أقرب للتأويل، وذكر قوله ((أحاج لك بها عند الله)) في قصة أبي طالب في كتاب مبعث النبي عليه السلام، لاحتمالها التأويل) (٣).

ونص بعض أهل العلم على أن الخبر الذي فيه حضور أبي طالب الوفاة مطابق لقوله تعالى: حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ [النساء: ١٨]، وبالتالي فإن الأوضح أن يقال بأن ذلك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم مع أبي طالب، واستدل من قال بهذا القول بأمرين:

الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((كلمة أحاج لك بها عند الله))، ولم يجزم بنفعها له، ولم يقل: تخرجك من النار.

الثاني: أنه سبحانه أذن للنبي صلى الله عليه وسلم بالشفاعة لعمه مع كفره، وهذا لا يستقيم إلا له، والشفاعة له ليخفف عنه العذاب (٤).

هذه أقوال بعض أهل العلم في قصة أبي طالب، ولعل الأقرب أن تكون خاصة به، وعلى كل الأحوال فإن مما لا خلاف فيه أن الذين يعملون السيئات من أهل الإصرار على المعاصي حتى إذا حضر أحدهم الموت، وحشرج بنفسه، وعاين الملائكة قد أقبلوا عليه لقبض روحه، وقد غلب على نفسه، وحيل بينه وبين فهمه بشغله بكرب حشرجته وغرغرته قال: إِنِّي تُبْتُ الآنَ فليس لهذا عند الله تبارك وتعالى توبة؛ لأنه قال ما قال في غير حال توبة (٥).

فإن قيل: هل تصح توبة من حكم عليه بالقتل، أو حضر في مكان يحترق أو كان في طائرة حدث فيها خلل وبدأت تهوي إلى الأرض، ونحو هذه الحالات.

فإنه يقال: نعم تصح توبة هؤلاء؛ لأنهم ربما ينجون من الموت، فمن هوت به الطائرة، أو كان في بيت يحترق، فربما ينجو، وكذلك من حكم عليه بالقتل فربما يرفع القتل عنه (٦). أحوال المحتضر لمحمد العلي مجلة الجامعة الإسلامية العدد ١٢٤ - ص ١٠٨


(١) جزء من حديث رواه البخاري (١٣٦٠)، ومسلم (٢٤). من حديث المسيب بن حزن رضي الله عنه.
(٢) أي: في باب إذا قال المشرك عند الموت: لا إله إلا الله، من كتاب الجنائز.
(٣) ((شرح صحيح البخاري)) (٣/ ٣٤٤ - ٣٤٦).
(٤) انظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) (١/ ٣٥٤).
(٥) انظر: ((تفسير الطبري)) (٤/ ٢٠٥، ٢٠٦).
(٦) انظر: ((فتاوى الشيخ محمد بن صالح العثيمين)) (٢/ ٩٩٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>