وفي هذا الحديث دلالة على أن في المؤمنين في البرزخ من يحبس على باب الجنة حتى يزول سبب الحبس، وهو دال على أن فيهم من يدخل الجنة، وهناك أحاديث تدل على أن في المؤمنين من يعذب في البرزخ بذنوب ارتكبوها, وفيها دلالة على تفاوت هؤلاء في العذاب على تفاوتهم فيما آتوا من الذنوب، وهي أحاديث يطول حصرها جداً, ومن أمثلتها قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه:((إنه أتاني الليلة آتيان، وأنهما ابتعثاني، وأنهما قالا لي: انطلق، وإني انطلقت معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجع وإذا آخر قائم عليه بصخرة, وإذا هو يهوى بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه فيتهدهد الحجر ههنا, فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يصبح رأسه كما كان، ثم يعود فيفعل به مثل ما فعل في المرة الأولى. قال: قلت لهما: سبحان الله ما هذا؟ قال: قالا لي: انطلق، قال: فانطلقنا, فأتينا على رجل مستلق لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه, وربما قال أبو رجاء: فيشق - قال: ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان، ثم يعود عليه فيفعل مثل ما فعل المرة الأولى، قال: قلت: سبحان الله ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا، فأتينا على مثل التنور - قال: وأحسب أنه كان يقول: فإذا فيه لغط وأصوات، قال: فاطلعنا فيه، فإذا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا، قال: قلت لهما: ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا، فأتينا على نهر- حسبت أنه كان يقول أحمر مثل الدم - وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة، فيفغر له فاه فيلقمه حجراً فينطلق يسبح، ثم يرجع إليه كلما رجع إليه فغر فاه فألقمه حجراً، قال: قلت لهما: ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا، فأتينا على رجل كريه المرآة، كأكره ما أنت راء رجلاً مرآة، وإذا عنده نار يحشها ويسعى حولها، قال: قلت لهما: ما هذا؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، فانطلقنا، فأتينا على روضة معتمة، فيها من كل نور الربيع، وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل، لا أكاد أرى رأسه طولاً في السماء، وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط، قال: قلت لهما: ما هذا؟ ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا فانتهينا إلى روضة عظيمة، لم أر روضة قط أعظم منها ولا أحسن، قال: قالا لي: ارق فيها، قال: فارتقينا فيها، فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة، فأتينا باب المدينة فاستفتحنا ففتح لنا فدخلناها، فتلقانا فيها رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء، وشطر كأقبح ما أنت راء، قال: قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، قال: وإذا نهر معترض يجري كأن ماءه المحض في البياض، فذهبوا فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم، فصاروا في أحسن صورة، قال: قالا لي: هذه جنة عدن, وهذاك منزلك، قال: فسما بصري صعداً، فإذا قصر مثل الربابة البيضاء، قال: قالا لي: هذاك منزلك، قال: قلت لهما: بارك الله فيكما ذراني فأدخله، قالا: أما الآن فلا، وأنت داخله، قال: قلت لهما: فإني قد رأيت منذ الليلة عجبا، فما هذا الذي رأيت؟ قال: قالا لي: أما إنا سنخبرك، أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر، فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة، وأما الرجل الذي أتيت عليه، يشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، فإنه الرجل يغدو من بيته، فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق، وأما الرجال والنساء العراة الذين في مثل بناء التنور، فإنهم الزناة والزواني، وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويلقم الحجارة، فإنه آكل الربا، وأما الرجل الكريه المرآة، الذي عند النار يحشها ويسعى حولها، فإنه مالك خازن جهنم، وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة. قال: فقال بعض المسلمين: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأولاد المشركين، وأما القوم الذين كانوا شطراً منهم حسناً وشطراً منهم قبيحاً، فإنهم قوم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، تجاوز الله عنهم)) (١).
ففي الحديث أن من المؤمنين في البرزخ من يثلغ رأسه أي يشدخ بالحجر، وأن منهم من يكون في تنور الزناة والزواني، وأن منهم من يكون في نهر الدم يسبح فيه ويلقم بالحجارة، ذلك لمعاصي أتوها، وأن منهم من يكون شطره حسناً وشطره الآخر قبيحاً لخلطه عملا صالحاً وآخر سيئاً. مباحث المفاضلة في العقيدة لمحمد بن عبدالرحمن الشظيفي – ص ٣٨٦
(١) رواه البخاري (٧٠٤٧). من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه.