للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعن يُحنس مولى الزبير أخبره أنه كان جالساً عند عبد الله بن عمر في الفتنة فأتته مولاة له تسلم عليه، فقالت: إني أردت الخروج يا أبا عبد الرحمن، اشتد علينا الزمان، فقال لها عبد الله: اقعدي لكاع؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد فيموت إلا كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة إذا كان مسلماً)) (١).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتي إلا كنت له شهيداً يوم القيامة أو شفيعاً)) (٢).

ومن تلك النصوص السابقة يتبين ثبوت شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة، وأنه يكون شهيداً وشفيعاً لهم.

وقد ورد الحديث بإثبات (أو)، وفي هذا إشكال؛ هل (أو) هنا جاءت لشك من الرواة، أم إنها صحيحة ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويكون إيرادها هكذا للتقسيم؛ بمعنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم يكون شهيداً لبعض أهل المدينة وشفيعاً لبقيتهم، أو يكون شفيعاً للعاصين, وشهيداً للمطيعين، أو شهيداً لمن مات في حياته, وشفيعاً لمن مات بعده، أو تكون (أو) هنا بمعنى الواو، ويكون المعنى أنه يكون شفيعاً وشهيداً لهم.

وقد أجيب عن هذا الاستشكال بجواب امتدحه القاضي عياض كما نقله عنه النووي بأنه جواب مقنع يعترف بصوابه كل من وقف عليه، فقال: (سألت قديماً عن معنى هذا الحديث، ولم خص ساكن المدينة بالشفاعة هنا، مع عموم شفاعته وادخاره إياها لأمته؟ قال: وأجيب عنه بجواب شافٍ - مقنع في أوراق – اعترف بصوابه كل واقف عليه.

قال: وأذكر منه هنا لمعاً تليق بهذا الموضع؛ قال بعض شيوخنا: (أو) هنا للشك، والأظهر عندنا أنها ليست للشك، لأن هذا الحديث رواه جابر بن عبد الله، وسعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وأبو سعيد، وأبو هريرة، وأسماء بنت عميس، وصفية بنت أبي عبيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ، ويبعد اتفاقهم جميعاً، أو رواتهم على الشك، وتطابقهم فيه على صيغة واحدة.

بل الأظهر أنه قاله صلى الله عليه وسلم هكذا؛ فإما أن يكون أعلم بهذه الجملة هكذا، وإما أن يكون (أو) للتقسيم، ويكون شهيداً لبعض أهل المدينة وشفيعاً لبقيتهم: إما شفيعاً للعاصين وشهيداً للمطيعين، وإما شهيداً لمن مات في حياته وشفيعاً لمن مات بعده، أو غير ذلك.

قال القاضي: وهذه خصوصية زائدة على الشفاعة للمذنبين أو للعالمين في القيمة وعلى شهادته على جميع الأمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد: ((أنا شهيد على هؤلاء)) (٣)، فيكون لتخصيصهم بهذا كله مزية أو زيادة منزلة وحظوة.

قال: وقد يكون (أو) بمعنى الواو؛ فيكون لأهل المدينة شفيعاً وشهيداً. قال: وقد روى: ((إلا كنت له شهيداً وله شفيعاً)) (٤).

قال: وإذا جعلنا (أو) للشك كما قاله المشايخ؛ فإن كانت اللفظة الصحيحة (شهيدا) اندفع الاعتراض؛ لأنها زائدة على الشفاعة المدخرة المجردة لغيره، وإن كانت اللفظة الصحيحة (شفيعاً) فاختصاص أهل المدينة بهذا مع ما جاء من عمومها وادخارها لجميع الأمة أن هذه شفاعة أخرى غير العامة التي هي لإخراج أمته من النار، ومعافاة بعضهم منها بشفاعته صلى الله عليه وسلم في القيامة، وتكون هذه الشفاعة لأهل المدينة بزيادة الدرجات، أو تخفيف الحساب، أو بما شاء الله من ذلك، أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع من الكرامة كإيوائهم إلى ظل العرش، أو كونهم في روح وعلى منابر، أو الإسراع بهم إلى الجنة، أو غير ذلك من خصوص الكرامات الواردة لبعضهم دون بعض) (٥).

وذكر هذه الشفاعة لساكني المدينة لا شك أنها مزية عظيمة لهم، ولكن ليس معنى هذا أن الشفاعة تعم كل من سكن المدينة على ما كان من العمل، كما قد يركن إليه بعض أهل الأماني، بل هذه المزية خاصة بمن سكن المدينة مؤمناً بالله ورسوله، عاملاً بما أوجبه الله عليه، صابراً على ما يصيبه فيها من آلام ومشاق؛ حباً فيها وتقديماً لها على غيرها؛ فهذا هو الذي يستحق مزية الاعتناء به والاهتمام بالشفاعة فيه كما أشار إليه الحديث.

أما من سكن فيها، ولم يشكر تلك النعمة؛ فأفسد فيها بما يتنافى مع حرمتها؛ فقد توعده الرسول صلى الله عليه وسلم باللعن، كما في قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة، قال: ((المدينة حرم, فمن أحدث فيها حدثاً, أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله, والملائكة, والناس أجمعين, لا يقبل منه يوم القيامة عدل ولا صرف)) (٦). الحياة الآخرة لغالب عواجي- ١/ ٤٠٧


(١) رواه مسلم (١٣٧٧).
(٢) رواه مسلم (١٣٧٨).
(٣) رواه البخاري (١٣٤٧).
(٤) رواه مسلم (١٣٧٧). بلفظ: ((أو شفيعاً)) بدلاً من: ((وله شفيعاً)).
(٥) ((شرح النووي لمسلم)) (٣/ ٥١٣).
(٦) رواه مسلم (١٣٧١).

<<  <  ج: ص:  >  >>