للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي رواية مسلم والنسائي عن سليمان بن يسار: قال: ((تفرق الناس عن أبي هريرة، فقال له ناتل أخو أهل الشام: أيها الشيخ حدثني حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول الناس يقضي يوم القيامة عليه: رجل استشهد، فأتي به، فعرفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، فقال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأوتي به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالمٌ، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه بنعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار)) (١).

- عرض الرب ذنوب عبده عليه

عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه، ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب. حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته. وأما الكافر والمنافقون فيقول الأشهاد: هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود: ١٨])) (٢). قال القرطبي في قوله: فيضع عليه كنفه أي: ستره ولطفه وإكرامه، فيخاطب خطاب ملاطفة، ويناجيه مناجاة المصافاة والمحادثة، فيقول له: هل تعرف؟ فيقول: رب أعرف، فيقول الله ممتناً عليه، ومظهراً فضله لديه: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، أي لم أفضحك بها فيها، وأنا أغفرها لك اليوم.

- معاتبة الرب عبده فيما وقع منه من تقصير

وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن معاتبة الرب لعبده يوم القيامة، ففي (صحيح مسلم) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى: يقول يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني. قال: يا رب كيف أعودك وأنت ربُّ العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني؟ قال: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم، استسقتيك فلم تسقني؟ قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه؟ أما علمت أنك لو سقيته وجدت ذلك عندي؟)) (٣). القيامة الكبرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص ٢٢٦

- إيتاء العباد كتبهم

في ختام مشهد الحساب يعطى كل عبد كتابه المشتمل على سجل كامل لأعماله التي عملها في الحياة الدنيا وتختلف الطريقة التي يؤتى بها العباد كتبهم، فأما المؤمن فإنه يؤتى كتابه بيمينه من أمامه، فيحاسب حساباً يسيراً، وينقلب إلى أهله في الجنة مسروراً فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا [الانشقاق: ٧ - ٩]، وإذا اطلع المؤمن على ما تحويه صحيفته من التوحيد وصالح الأعمال سر واستبشر، وأعلن هذا السرور، ورفع به صوته، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة: ١٩ - ٢٤]. وأما الكافر والمنافق وأهل الضلال فإنهم يؤتون كتبهم بشمالهم من وراء ظهورهم، وعند ذلك يدعو الكافر بالويل والثبور، وعظائم الأمور: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا [الانشقاق: ١٠ - ١٢]. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ [الحاقة: ٢٥ - ٣١]. وعندما يعطى العباد كتبهم يقال لهم: هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية: ٢٩]. القيامة الكبرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص ٢٣٠


(١) رواه مسلم (١٩٠٥)، والنسائي (٦/ ٢٣).
(٢) رواه البخاري (٢٤٤١)، ومسلم (٢٧٦٨).
(٣) رواه مسلم (٢٥٦٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>