للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبين وجه الدلالة من الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قرر ضماماً على ما اعتمد عليه في تعرف رسالته وصدقه صلى الله عليه وسلم من مناشدته ومجرد إخباره إياه بذلك، ولم ينكر عليه ذلك قائلا له: أن الواجب عليك أن تستدرك ذلك من النظر في معجزاتي، والاستدلال بالأدلة القطعية التي تفيدك العلم (١).

مستند الإجماع: من تأمل نصوص الكتاب والسنة وجدها حافلة بذكر الأمر الذي بعث الله عز وجل من أجله المرسلين، واجتمعت عليه كلمتهم أجمعين، فكان ذلك الأمر هو أوجب الواجبات، أول الفرائض والمطلوبات والذي شغل حيزاَ من حياتهم، بل كل حياتهم لتبليغه والدعوة إليه، فكان وظيفتهم والحكمة من بعثتهم، ألا وهو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، لا كما زعم المتكلمون أنه النظر المؤدي إلى معرفة الباري؛ فدونك الأدلة على ذلك، من الكتاب والسنة:

فمن الكتاب: قول الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل: ٣٦].

وقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: ٢٥]. ونظائرهما كثير.

ووجه الدلالة من هاتين الآيتين ظاهر وصريح في أن الرسل إنما بعثوا لأمر الناس بعبادة الله ودعوتهم إلى ذلك، بل دلت الآية على حصر مهمتهم ووظيفتهم في ذلك، ولو كان النظر أوجب الواجبات وأولها، لنبه عليه الشارع الحكيم، ولكان على رأس الاهتمام من الأنبياء والمرسلين، ولما لم يكن كذلك تبين بطلان ما ذهب إليه المتكلمون، وفساد طريقتهم ومسلكهم.

وأما السنة: فقد أخرج البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى نحو أهل اليمن قال له إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى)) (٢).

وفي رواية: ((ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)) (٣).

وعن سهل بن سعد: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى الراية عليا رضي الله عنه يوم خيبر، فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام ... )) (٤).

ووجه الدلالة من الحديثين بينة؛ إذ لو كان النظر إلى معرفة الله تعالى واجباً كما يدعي المتكلمون لأمر صلى الله عليه وسلم بالدعوة إليه أولا، ولما قدم عليها غيره، ومن ثم تظهر مخالفة المتكلمين لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن الأدلة أيضا ما أخرجه الشيخان من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله)). (٥)

ووجه الدلالة ظاهر بين؛ إذ إن الرسول صلى الله عليه وسلم علق كفه عن قتال الناس على شرط به يعصم المرء دمه وماله، ألا وهو التلفظ بالشهادتين، بخلاف ما سلكه المتكلمون من الحكم بسفك دم من لم يعرف الله تعالى بالطرق والأقيسة العقلية التي ابتدعوها.

فالرسول صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى توحيد الله عز وجل وقبل إسلام من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهؤلاء المتكلمون يدعون الناس إلى الاستدلال والدخول في الإسلام بهذه الطريقة المبتدعة ويجعلونه أول واجب على المكلف ومن لم يعرف أو عاند في تركه حكم بكفره وسفك دمه، فتأمل ما بين المنهجين من البون الشاسع والفرق الكبير. المسائل العقدية التي حكى فيها ابن تيمية الإجماع لمجموعة مؤلفين – ص: ٢٦٠


(١) ((صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط)) لابن الصلاح (ص: ١٤٢ - ١٤٤).
(٢) رواه البخاري (٧٣٧٢).
(٣) رواه البخاري (١٣٩٥).
(٤) رواه البخاري (٤٢١٠)، ومسلم (٢٤٠٦).
(٥) رواه البخاري (٢٥)، ومسلم (٢٢). من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

<<  <  ج: ص:  >  >>