للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن ترك الأسباب المأمور بها فهو عاجز مفرط مذموم (١)، وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المؤمن القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)) (٢)

قال شارح الطحاوية: (وقد ظن بعض الناس أن التوكل ينافي الاكتساب وتعاطي الأسباب, وأن الأمور كانت مقدرة فلا حاجة إلى الأسباب, وهذا فاسد, فإن الاكتساب: منه فرض, ومنه مستحب, ومنه مباح, ومنه مكروه, ومنه حرام ... وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أفضل المتوكلين، يلبس لامة الحرب, ويمشي في الأسواق للاكتساب) (٣). وقد قال عمر رضي الله عنه لأبي عبيدة لما جاء الخبر بانتشار الوباء في الشام، ورأى عمر الرجوع فقال له أبو عبيدة: ((أفراراً من قدر الله فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة, نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت وادياً له عدوتان: إحداهما خصبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله)) (٤).

هكذا فهم الصحابة رضوان الله عليهم العلاقة بين الإيمان بالقدر والأخذ بالأسباب, وأن الأخذ بالأسباب داخل في معنى الإيمان بالقدر ولا ينافيه.

وحين أراد المسلمون تغيير الواقع بالجهاد أخذوا بأسباب الجهاد كلها, ثم توكلوا على الله تعالى ولم يقولوا: إن الله قدر نصر المؤمنين وهزيمة الكافرين، واكتفوا بذلك عن الاستعداد والجهاد, والصبر, وخوض المعارك, بل فعلوا كل هذه الأمور, فنصرهم الله, وأعز الله بهم الإسلام.

واليوم إذا وجد من يقعد عن تغيير الواقع المؤسف للمسلمين بحجة أنه واقع بقدر من الله فهذا منه جهالة عظيمة بحقيقة هذا الدين، وبحقيقة القدر الذي هو ركن من أركان الإيمان, وإننا لنسمع كثيراً من اليائسين الذين يكررون دائماً عبارات التيئيس للدعاة والمصلحين، مثل قولهم: إن الزمان هو الذي فسد, وإن الإصلاح صعب, وهذا آخر الزمان, وهو زمان غربة الإسلام, إلى آخر العبارات التي تنم عن جهل كبير, ويأس قاتل, وما أدري لو عايش هؤلاء غربة الإسلام الأولى حين كانت الدنيا كلها مطبقة على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين كانوا قلة مستضعفين ما أدري لو عايش هؤلاء تلك الغربة ماذا سيقلون وماذا سيفعلون؟ (٥) القضاء والقدر لعبدالرحمن بن صالح المحمود - ص ٢٩٣


(١) انظر: ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (٨/ ٥٢٨ - ٥٢٩).
(٢) رواه مسلم (٢٦٦٤). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٣) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: ٣٠١).
(٤) رواه البخاري (٥٧٢٩)، ومسلم (٢٢١٩). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(٥) ((العقائد الإسلامية)) لسيد سابق (ص: ٩٨ - ٩٩)، وانظر: ((الإيمان: أركانه, حقيقته، نواقضه)) للدكتور محمد نعيم ياسين (ص: ١١٢–١١٤)، و ((علم التوحيد)) لمحمد قطب (ص٢٠٦ - ٢٠٨)، و ((الدعائم الخلقية للقوانين الشرعية)) لصبحي محمصاني (ص: ٥٨ - ٦٢)، و ((العقيدة الإسلامية سفينة النجاة)) لكمال عيسى (ص: ٤٢٨ - ٤٢٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>