وهذا يدل على ما يختلج في النفوس من شهوات وشبهات, ولذلك تراهم يحتجون بالقدر على أفعالهم ومعاصيهم, وفي نفس الوقت ينتقمون ممن اعتدى عليهم أو ظلمهم، ولو احتج عليهم بالقدر لما قبلوا، بل لو كان الاعتداء بما يحسن الاحتجاج بالقدر عليه كالمصائب التي يقدرها الله سبحانه وتعالى لاعترضوا ولم يقبلوا أن يحتج بالقدر من كانت على يديه هذه المصائب دون عمد منه أو تفريط, وعند الاستقراء تجد أن هؤلاء يحتجون بالقدر في ترك حق ربهم، ومخالفة أمره، لا في ترك ما يرونه حقاً لهم، ولا مخالفة أمرهم، ويقول ابن تيمية عن هؤلاء: (ولهذا تجد المحتجين والمستندين إليه من النساك, والصوفية، والفقراء, والعامة, والجند, والفقهاء وغيرهم يفرون إليه عند اتباع الظن وما تهوى الأنفس، فلو كان معهم علم وهدى لم يحتجوا بالقدر أصلاً، بل يعتمدون عليه لعدم الهدى والعلم، وهذا أصل شريف من اعتنى به علم منشأ الضلال والغي لكثير من الناس) (١) , ومعلوم أن الصوفية هم شر من ابتلي في هذا الباب حيث اعتقدوا أن ما وقع فالله يحبه ويرضاه، وما لم يقع فالله لا يحبه ولا يرضاه، والواقع هو تبع القدر لمشيئة الله وقدرته، فالمقدور هو محبوب لله تعالى مهما كان.
٢ - أنه يلزم على الاحتجاج بالقدر لازم باطل ألا وهو تعطيل الشرائع، وحين تعطل الشرائع يلزم عليها أن يكون إبليس, وفرعون, وقوم نوح, وعاد وكل من عذبه الله بسبب مخالفته أمره معذوراً, ويلزم أيضاً ألا يفرق بين المؤمنين والكفار, ولا بين أولياء الله وأولياء الشيطان, وهذه كلها لوازم معلوم بطلانها بالضرورة.
والقدرية ثلاثة أصناف:
الأولى: القدرية المشركية، وهم الذين اعترفوا بالقضاء والقدر، وزعموا أن ذلك يوافق الأمر والنهي فقالوا: لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ [الأنعام:١٤٨]، وهؤلاء يؤول أمرهم إلى تعطيل الشرائع وإن كانوا معترفين بربوبية الله العامة لكل مخلوق.
الثانية: القدرية الإبليسية: وهم الذين يصدقون بالشرع والقدر، ولكن عندهم أن هذا تناقض, وهؤلاء كثير في سفهاء الشعراء ونحوهم من الزنادقة.
الثالثة: القدرية المجوسية، وهم الذين يجعلون لله شركاء في خلقه، فيقولون: خالق الخير غير خالق الشر، ويقولون إن الذنوب ليست واقعة بمشيئة الله ولا قدرته، وهؤلاء هم المعتزلة الذين يعظمون الأمر والنهي، ولكنهم يشركون معه في باب القدر، ولهذا سموا بالقدرية المجوسية، فهؤلاء لا ينظرون إلى القدر في المصائب ولا في المعائب، في حيث أن الأولين يحتجون بالقدر في المصائب والمعائب، وكل منهم ضال في هذا الباب, وهو مقصر إما في جانب الشرع، أو في جانب القدر.
ولو كان القدر حجة للعباد لم يعذب أحد من الخلق لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولم تقطع يد سارق، ولا أقيم حد على زان، ولا جوهد في سبيل الله.
٣ - أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وهو متمكن من الإيمان قادر عليه, وكما هو معلوم فإن القدرة التي هي شرط في الأمر تكون موجودة قبل الفعل لكل مكلف، ومن ثم فالإنسان قادر متمكن، وقد خلق الله فيه القدرة على الإيمان، وحينئذ فحين لا يؤمن يكون هو الذي لا يريد الإيمان، ومادام الأمر كذلك فليس لأحد أن يقول: لماذا لم يجعلني الله مريداً للإيمان، لأنه لو أراد الإيمان لقدر عليه، ومادام الإنسان مريداً قادراً فاحتجاجه بالقدر باطل.
وينبغي أن يعلم أن الاحتجاج بالقدر إنما يرد على من لا يقر للإنسان بإرادة ولا قدرة كالجهمية والأشاعرة، أما على مذهب أهل السنة الحقيقي فلا يرد، لأنهم يقولون إن الإنسان مريد وفاعل حقيقة، وله قدرة يقع بها الفعل.
(١) ((منهاج السنة النبوية)) (٣/ ٥٨ - ٥٩).