للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أحدها: أن يقال للمخبر إذا صدقته: صدقه، ولا يقال: آمنه وآمن به، بل يقال: آمن له، كما قال تعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت: ٢٦]. وقال: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ [يونس: ٨٣] (١).

فإن قيل: فقد يقال: ما أنت بمصدق لنا؟ قيل: اللام تدخل على ما يتعدى بنفسه إذا ضعف عمله، إما بتأخيره، أو بكونه اسم فاعل أو مصدراً، أو باجتماعهما فيقال: فلان يعبد الله ويخافه ويتقيه، ثم إذا ذكر باسم الفاعل قيل: هو عابد لربه، متق لربه، خائف لربه (٢) فقول القائل: ما أنت بمصدق لنا، أدخل فيه اللام كونه اسم فاعل، وإلا فإنما يقال: صدقته، لا يقال: صدقت له، ولو ذكروا الفعل لقالوا: ما صدقتنا، وهذا بخلاف لفظ الإيمان، فإنه يتعدى إلى الضمير باللام دائماً، لا يقال: آمنته قط، وإنما يقال: آمنت له، كما يقال: أقررت له، فكان تفسيره بلفظ الإقرار أقرب من تفسيره بلفظ التصديق، مع أن بينهما فرقاً (٣).

الثاني: أن الإيمان لا يستعمل في جميع الإخبار، بل في الإخبار عن الأمور الغائبة ونحوها مما يدخلها الريب، فإذا أقر بها المستمع قيل: آمن، بخلاف لفظ التصديق، فإنه عام متناول لجميع الإخبار (٤) فإن كل مخبر عن مشاهدة أو غيب يقال له في اللغة: صدقت، كما يقال: كذبت، فمن قال: السماء فوقنا، قيل له: صدق، كما يقال كذب. وأما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن غائب (٥)، فإن الإيمان مشتق من الأمن، فإنما يستعمل في خبر يؤتمن عليه المخبر، كالأمر الغائب الذي يؤتمن عليه المخبر، ولهذا لم يوجد قط في القرآن وغيره لفظ، آمن له، إلا في هذا النوع (٦)، فاللفظ متضمن مع التصديق معنى الائتمان والأمانة، كما يدل عليه الاستعمال والاشتقاق، ولهذا قالوا: وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا [يوسف: ١٧]. أي لا تقر بخبرنا، ولا تثق به، ولا تطمئن إليه، ولو كنا صادقين؛ لأنهم لم يكونوا عنده ممن يؤتمن على ذلك، فلو صدقوا لم يأمن لهم (٧).

الثالث: أن لفظ الإيمان في اللغة لم يقابل بالتكذيب، كلفظ التصديق، فإنه من المعلوم في اللغة أن كل مخبر يقال له: صدقت وكذبت، ويقال: صدقناه أو كذبناه، ولا يقال لكل مخبر: آمنا له أو كذبناه، ولا يقال: أنت مؤمن له أو مكذب له، بل المعروف في مقابلة الإيمان لفظ الكفر، يقال: هو مؤمن أو كافر، والكفر لا يختص بالتكذيب، بل لو قال: أنا أعلم أنك صادق، ولكن لا أتبعك، بل أعاديك وأبغضك وأخالفك ولا أوافقك، لكان كفره أعظم، فلما كان الكفر المقابل للإيمان ليس هو التكذيب فقط، علم أن الإيمان ليس هو التصديق فقط، بل إذا كان الكفر يكون تكذيباً، ويكون مخالفة ومعاداة وامتناعاً، بلا تكذيب، فلا بد أن يكون الإيمان تصديقاً مع موافقة وموالاة وانقياد، لا يكفي مجرد التصديق (٨).


(١) ((الإيمان))، لابن تيمية (ص: ٢٧٥)، و ((الإيمان الأوسط)) (ص: ٧١).
(٢) ((الإيمان))، لابن تيمية (ص: ٢٧٥)، و ((الأوسط)) (ص: ٧٢).
(٣) ((الإيمان))، لابن تيمية (ص: ٢٧٦)، و ((الإيمان الأوسط)) (ص: ٧٢).
(٤) ((الإيمان))، لابن تيمية (ص: ٢٧٦)، و ((الإيمان الأوسط)) (ص: ٧١).
(٥) ((الإيمان))، لابن تيمية (ص: ٢٧٦).
(٦) ((الإيمان))، لابن تيمية (ص: ٢٧٦).
(٧) ((الإيمان))، لابن تيمية (ص: ٢٧٧).
(٨) ((الإيمان))، لابن تيمية (ص: ٢٧٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>