للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فلو لم يكن فيما أقامه من أدلة عقلية فائدة لاكتفى بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك دون أن يلزمهم باعترافهم بتوحيد الربوبية ليقروا بتوحيد الألوهية. ... وما أبقاه الله من أدلة عقلية يراها ويسمعها الناس تدل على قبح الشرك من إهلاكه عاداً وثمود وإنجائه للموحدين: كما قال: وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ [العنكبوت: ٣٨]. وما ذكره بعد إهلاكه للمشركين وإنجائه للموحدين بقوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء: ٨ - ٩] والآية هي العلامة الدالة على ما هي علامة له، فهذا الخبر متضمن لدليل عقلي وهو: لو كان ما عليه المشركون صحيحاً لما أهلكهم الله، ولو كانت عبادة الآلهة التي عبدت دون الله صحيحة لنفعت أصحابها بكف العذاب ودفعه. وقال الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات: ٨٧ - ٨٦] أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: ٩٥ - ٩٦] فخطاب إبراهيم عليه السلام لقومه خطاب عقلي وهو: ما ظنكم بربكم إذا لقيتموه يوم القيامة وقد عبدتم غيره أن يفعل بكم، وما ظنكم به من ظن السوء حتى عبدتم غيره! مع أن الأصنام التي عبدوها لم تدفع عن نفسها ضراً إذ قام بتحطيمها، وهي كذلك مخلوقة مربوبة مثل من يعبدها بل أقل شأناً! فكيف يستقيم عقل من يعبدها!.

وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فهذا كله يبين قبح ما كانوا عليه قبل النهي. فلولا أن حسن التوحيد وعبادة الله وحده لا شريك له وقبح الشرك ثابت في نفس الأمر معلوم بالعقل لم يخاطبهم بهذا إذ كانوا لم يفعلوا شيئاً يذمون عليه) (١).

ويؤكد هذا ما جاء في استعمال القرآن بعد ضرب الأمثلة وإقامة الأدلة من مخاطبة العقول بقوله: كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وهذه الآية جاءت بعد مثل ضربه الله عز وجل ليبين أنه أولى بالتنزيه عن الشركاء من الأسياد من البشر في عدم رضاهم بمشاركة مماليكهم لهم في حقهم فقال: ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم: ٢٨].

الثالث: مطالبة الله المشركين بالدليل العقلي والسمعي على شركهم:

وفي ذلك يقول الله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأحقاف: ٤] قال ابن القيم: (فطالبهم بالدليل السمعي والعقلي) (٢).

فمطالبته إياهم بالدليل العقلي وهو في قوله: أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ دليل على أن العقل يعلم بطلان صرف شيء من العبادة لغير الله، إذ العابد إنما يرجو ممن يعبده نفعاً أو دفع ضر عنه – والذي لا يخلق ولا يملك شيئاً لا استقلالاً ولا شركة ضعيف فقير عاجز لا يغني شيئاً فلم يستحق أن يعبد.

وأما العقاب على ترك التوحيد فهذا لا يكون إلا بعد ورود الشرع – كما قال ابن القيم: (إن العقاب على ترك هذا الواجب يتأخر إلى حين ورود الشرع كما دل عليه قوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: ١٥] وقوله: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا .. [الملك: ٨ - ٩] وقوله: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص: ٥٩] وقوله: ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [الأنعام: ١٣١] فهذا يدل على أنهم ظالمون قبل إرسال الرسل وأنه لا يهلكهم بهذا الظلم قبل إقامة الحجة عليهم.) (٣) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فينبغي أن يعلم أن استحقاق العباد للعذاب بالشرك فما دونه مشروط ببلاغ الرسالة في أصل الدين وفروعه) (٤). منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبد اللطيف– ١/ ١٣٦


(١) ((مجموع الفتاوى)) (١١/ ٦٨١ - ٦٨٢).
(٢) ((الصواعق المرسلة)) (٢/ ٤٦٥).
(٣) ((مدارج السالكين)) (٣/ ٤٥٣ - ٤٥٤).
(٤) ((قاعدة في المحبة)) لشيخ الإسلام ضمن ((جامع الرسائل)) (٢/ ٢٩٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>