للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، ويفتح الله عليه ... فدعا عليا، فبعثه فقال: اذهب فقاتل، حتى يفتح الله عليك، ولا تلتفت. فمشى ساعة – أو قال: قليلا -، ثم وقف ولم يلتفت، فقال: يا رسول الله، علام أقاتل الناس؟، قال: قاتلوهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك، منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)) (١).

وبناء على ما سبق، فإن وصف المسلم لا يثبت للمكلف على الحقيقة التي يصير بها مسلما عند الله إلا بأمرين:

الأول: تحقق هذا الأصل في القلب.

الثاني: النطق باللسان بالبراءة من الشرك والالتزام بالتوحيد، وهذا في حالة الخلو من الموانع والأعذار الشرعية المعتبرة كالبكم والإكراه.

فهذا القدر – وهو أصل الدين – إذا ما تحقق ولم ينقض بقول أو عمل أو اعتقاد، فقد نجا صاحبه من الكفر، ومن الخلود في النار، وهذا ما أطلق عليه شيخ الإسلام ابن تيمية اسم (الإيمان المجمل)، حيث قال: (فعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر، أو ولدوا على الإسلام، والتزموا شرائعه، وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله، فهم مسلمون، ومعهم إيمان مجمل. ولكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم إنما يحصل شيئاً فشيئاً إن أعطاهم الله ذلك) ا. هـ (٢).

وعلى هذا، فإن نفي الإيمان المجمل معناه نفي مطلق الإيمان، وسقوط صاحبه في الكفر الأكبر الناقل عن الملة، ويتحقق هذا بانتفاء أو نقض أحد عناصره من التصديق أو الانقياد أو الإقرار.

ومن خلال ما سبق بيانه، يتبين لنا جليا أن أول واجب على المكلف هو: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، لا كما يقول أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية أن أول ما يجب على العبد النظر في الأدلة العقلية على وجود الله تعالى، أو القصد إلى النظر أو غيره (٣).

قال الحافظ ابن حجر: (قال القرطبي: لو لم يكن في (علم) الكلام إلا مسألتان، هما من مبادئه، لكان حقيقا بالذم.

إحداهما: قول بعضهم: إن أول واجب الشك؛ إذ هو اللازم لوجوب النظر، أو القصد إلى النظر.

والثانية: قول جماعة منهم: من لم يعرف الله بالطرق التي رتبها أهل الكلام، لم يصح إيمانه.

والقائل بهاتين المسألتين كافر؛ لجعله الشك في الله تعالى واجبا، ومعظم المسلمين كفاراً، حتى يدخل في عموم كلامه السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وهذا معلوم الفساد من الدين بالضرورة) (٤).

والخلاصة: أن هذا الالتزام المجمل هو الذي يتوقف على تحقيقه ثبوت عقد الإسلام، فلا يكون المرء مسلما إلا باستيفائه. كما أنه شرط في صحة الأعمال وقبولها، فهو سابق على غيره من التكاليف.

أما الالتزام بباقي الواجبات، فإنه يأتي بعد تحقيق هذا الأصل، فإن حصل التزام وعمل، استلزم ذلك بقاء وصف الإسلام واستمراره، وهذا مصداق أمر النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن أن يدعو إلى الشهادتين، فمن أطاعه على ذلك، أعلمه بالصلاة ثم الزكاة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: (الكافر إذا أسلم وقلنا له: قد وجبت عليك الصلاة، فإنه يلتزمها وينويها؛ لاستشعاره لها جملة ولم يعلم صفتها، بل كل من آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم إيمانا راسخا، فإن إيمانه متضمن لتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، وإن لم يعلم ولم يقصد أنواع الأخبار والأعمال. ثم عند العلم بالتفصيل، إما أن يصدق ويطيع، فيصير من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أو يخالف ذلك، فيصير إما منافقا، وإما عاصيا فاسقا، أو غير ذلك (٥).

والثمرة النهائية التي نستخلصها من هذا المبحث هو: أنه لا عذر لأحد بالجهل في هذا الأصل، فمن لم يتحقق لديه، لم يكن مسلما، دون اعتبار لعلم أو لجهل. فإن هذا مما انعقد به الإجماع بقين المسلمين بكفر كل من لم يدن بدين الإسلام. فكل من لم يشهد لله بالوحدانية، ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، فهو كافر بلا نزاع، سواء كان يهوديا أو نصرانيا أو وثنيا أو غيره.

أما ما كان من نزاع في بعض هذه الطوائف ممن لم تبلغهم نذارة ولم يصلهم بلاغ، فهو فيما يتعلق بأحكام الآخرة، هل يخلدون في النار لكفرهم، أو يعفى عنهم؛ لعدم بلوغ الحجة إليهم، أم يمتحنون في عرصات يوم القيامة؟. أما في الدنيا فهم كفار بلا نزاع. الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه لعبد الرزاق بن طاهر بن أحمد– ص: ٥٣


(١) رواه مسلم (٢٤٠٥).
(٢) ((الإيمان)) (ص: ٢٥٧) –تحقيق الشيخ ناصر الدين الألباني-.
(٣) انظر: ((إتحاف المريد بجوهرة التوحيد)) لعبد السلام اللقاني (ص: ٤٢).
(٤) ((فتاح الباري)) (١٣/ ٣٥٠).
(٥) ((مجموع الفتاوى)) (٢٦/ ٢٧ - ٢٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>