للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد أخبرنا الله تعالى عن إخوة يوسف وما صنعوا بأخيهم حسدا له على مكانته من أبيه، ومن المحال أن يصدر منهم هذا مع خلو قلوبهم من الحسد، إذ أن أعمال الجوارح إنما هي تنفيذ وتحقيق لإرادة القلب الجازمة، فوجودها في الحالة السوية - أي حالة عدم الإكراه ونحوه - يقطع بوجود أصلها القلبي.

وهذا بخلاف اتهام المنافقين للصحابة رضي الله عنهم، الذي أخبر الله عنه بقوله فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا [الفتح: ١٥]، لأن المنافقين ادعوا أن مانع المؤمنين من استصحابهم إياهم إلى المغانم هو الحسد، وهي تهمة لم يأتوا عليها بدليل إلا المنع نفسه، والله تعالى أمر المؤمنين أن يقولوا لهم: لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ [الفتح: ١٥].

فهذا سبب المنع، فإذا اتهمهم أولئك بعد هذا بالحسد لم يكن لهذا الاتهام موقع.

والمقصود أنه مع عدم حصول أي دليل أو إشارة للحسد في أعمال أي إنسان لا يصح ولا يقبل من أحد أن يدعي أن قلبه مملوء حسدا، وهذا يعرفه الناس جميعا - المرجئة وغيرهم - في سائر أعمال القلوب، لكن المرجئة تناقض هذا فيما هو أعظم وأهم، فتزعم أنه يمكن أن يكون القلب مملوءا بالإيمان ولا يظهر من ذلك على الجوارح شيء ‍‍‍‍! بل تزعم وجوده في القلب مع أن أعمال الجوارح كلها بخلافه، في حين أنها لا تصدق أن إنسانا سليم القلب من الحسد إذا كانت أعماله كلها دالة عليه.

نعم، أعمال القلوب هي الأصل وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((التقوى هاهنا)) (١)، وقال: ((إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) (٢). ونحو ذلك مما سبق أو سيأتي من النصوص.

ولهذا تحصل حالة شاذة خفية، وهي أن يضعف إيمان القلب ضعفا لا يبقى معه قدرة على تحريك الجوارح لعمل خير، مثله مثل المريض الفاقد الحركة والإحساس، إلا أن في قلبه نبضاً لا يستطيع الأطباء معه الحكم بوفاته مع أنه ميئوس من شفائه، فهو ظاهرا في حكم الميت وباطنا لديه هذا القدر الضئيل من الحياة الذي لا حركة معه، وهذه هي حالة الجهنميين الذين يخرجهم الله من النار مع أنهم لم يعملوا خيرا قط، وسيأتي تفصيل الحديث عن هذه الحالة (٣)، وإنما أشرت إليها هنا ليسلم لنا تصور الأصل، حتى إذا تم إيضاحه عرجنا على الحالات الشاذة.

ولقد وصل الشذوذ بالمرجئة الغالية - كالأشاعرة ومن حذا حذوهم - إلى حد القول بأن لا إله إلا الله باللسان ليس شرطاً في الإيمان عندهم، بل قالوا: يكفي حصول الإيمان في القلب لنجاة صاحبه عند الله، وأما أحكام الدنيا فإنما جعلت الشهادتان أمارة على ما في القلب لنحكم على قائلها بالإيمان، وهذا هو الغاية من الشهادتين عندهم، وليس لهم على هذا من شبهة إلا شبهة أن الإيمان محله كله القلب، وأن ما يظهر على الجوارح مجرد أمارات وثمرات - على ما سبق تفصيله في بابه - وافترضوا تبعا لذلك من المسائل التي تحيلها العقول الشيء الكثير.

فالقوم لما خفيت عليهم حقيقة الإيمان الجامعة وترابط أجزائه المحكم وقعوا في هذه الغلطة الكبرى، التي كان لانتشارها من الآثار المدمرة في الأمة الإسلامية ما تنوء بشرحه المجلدات، وحسبك ما وقعت فيه الأمة من شرك أكبر - قديما وحديثا - وهي تحسب أنها في ذروة الإيمان، لأن القلب مصدق للرسول واللسان ناطق بأن لا إله إلا الله!!

ومن هنا كان لزاما علينا إيضاح الدلائل القاطعة لأهل السنة والجماعة على أن للقلب أعمالا سوى التصديق ينخرم الإيمان بانخرامها، وقبل ذلك نبين أهمية قول: لا إله إلا الله، وعلاقة سائر الأقوال المتعبد بها بإيمان القلب، تلك العلاقة التي هي علاقة امتزاج وتركيب، ولهذا لم يوجد في مذهب أهل السنة أبدا استخدام عبارة (مؤمن باطنا، كافر ظاهرا)، ولا إمكان وجود ذلك. ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي لسفر الحوالي - ٢/ ٥٢١


(١) رواه مسلم (٢٥٦٤). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٢) رواه البخاري (٥٢)، ومسلم (١٥٩٩). من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(٣) في مبحث الشبهات النقلية من الباب الأخير.

<<  <  ج: ص:  >  >>