للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقول شيخ الإسلام: (خلافهم مع الجماعة خلاف يسير، وبعضه لفظي)، وقوله: (أن أكثر التنازع بين أهل السنة في هذه المسألة هو نزاع لفظي) ونحو هذا من كلامه، يدل على أن الخلاف مع مرجئة الفقهاء- وإن قالوا بالتلازم- حقيقي في بعض المسائل، ولعله يشير إلى قولهم في الاستثناء، أو تجويزهم أن يقول أفسق الناس: إن إيمانه كإيمان جبريل عليه السلام!

وقد ترتب على قولهم في الاستثناء مذهب شنيع، وهو تكفير المستثني، بحجة أنه شاك في إيمانه، ولهذا منع بعض الحنفية من تزويج القائل بالاستثناء؛ لكن المحققين منهم على خلافه.

قال ابن نجيم: (وقال الرستغفني: لا تجوز المناكحة بين أهل السنة والاعتزال. وقال الفضل: لا يجوز بين من قال: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى؛ لأنه كافر. ومقتضاه منع مناكحة الشافعية، واختلف فيها هكذا، قيل: يجوز، وقيل: يتزوج بنتهم ولا يزوجهم بنته، وعلله في البزازية بقوله: تنزيلا لهم منزلة أهل الكتاب. وقد قدمنا في باب الوتر والنوافل إيضاح هذه المسألة، وأن القول بتكفير من قال: أنا مؤمن إن شاء الله غلط، ويجب حمل كلامهم على من يقول ذلك شاكا في إيمانه، والشافعية لا يقولون به، فتجوز المناكحة بين الحنفية والشافعية بلا شبهة. وأما المعتزلة فمقتضى الوجه حل مناكحتهم؛ لأن الحق عدم تكفير أهل القبلة، كما قدمنا نقله عن الأئمة في باب الإمامة) (١).

والحاصل أن إرجاء الفقهاء يحتمل أمرين:

الأول: عدم إثبات التلازم بين الظاهر والباطن، والقائل بهذا خلافه مع أهل السنة خلاف حقيقي جوهري.

والثاني: إثبات التلازم بين الظاهر والباطن، والتسليم بأن انتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم، والقائل بهذا خلافه مع أهل السنة أكثره لفظي، وبدعته في إخراج العمل من مسمى الإيمان، من بدع الأقوال والأفعال، لا من بدع العقائد.

هذا تحرير مذهب شيخ الإسلام، في هذه المسألة، حسبما ظهر لي من تتبع كلامه في مواطن كثيرة من كتبه.

وممن ذهب إلى أن الخلاف بين أهل السنة ومرجئة الفقهاء خلاف صوري:

ابن أبي العز الحنفي في شرحه على الطحاوية، حيث قال: (والاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة خلاف صوري؛ فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب، أو جزءا من الإيمان، مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان، بل هو في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه: نزاع لفظي لا يترتب عليه فساد اعتقاد) (٢).

وهذا موافق لما قرره شيخ الإسلام، من جعل الخلاف مع هؤلاء المرجئة لفظياً، إذا أقروا بأن أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب.

ومنهم: الحافظ الذهبي، فقد قال: (قال معمر: قلت لحماد: كنت رأسا وكنت إماما في أصحابك، فخالفتهم فصرت تابعا. قال: إني أن أكون تابعا في الحق، خير من أن أكون رأسا في الباطل.

قلت: يشير معمر إلى أنه تحول مرجئا إرجاء الفقهاء، وهو أنهم لا يعدّون الصلاة والزكاة من الإيمان، ويقولون: الإيمان إقرار باللسان، ويقين في القلب، والنزاع على هذا لفظي إن شاء الله، وإنما غلو الإرجاء من قال: لا يضر مع التوحيد ترك الفرائض. نسأل الله العافية) (٣).

وصرح بعض أهل العلم بأن الخلاف حقيقي جوهري، بإطلاق:


(١) ((البحر الرائق شرح كنز الدقائق)) (٣/ ١١٠)، وينظر: ((فتح القدير)) لابن الهمام (٣/ ٢٣١)، ((حاشية ابن عابدين)) (٣/ ٤٦). وينبغي التنبه لاختلاط كلام الحنفية، بكلام الماتريدية، بعد انتشار مذهب الماتريدي، مما يصعب معه الجزم بأن الفروع التي يذكرونها في باب الإيمان والكفر مما تقول به المرجئة الأوائل.
(٢) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (٢/ ٥٠٨).
(٣) ((سير أعلام النبلاء)) (٥/ ٢٣٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>