للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الفرق الثاني: ما تقدم من أن الإيمان لا يستعمل في جميع الأخبار، بل في الإخبار عن الأمور الغائبة، ونحوها مما يدخلها الريب. فإذا أقر بها المستمع قيل: آمن، بخلاف لفظ التصديق، فإنه عام متناول لجميع الأخبار.

وأما المعنى: فإن الإيمان مأخوذ من الأمن الذي هو الطمأنينة، كما أن لفظ الإقرار مأخوذ من: قر، يقر، وهو قريب من آمن، يأمن، لكن الصادق يطمئن إلى خبره والكاذب بخلاف ذلك، كما يقال: الصدق طمأنينة, والكذب ريبة، فالمؤمن دخل في الأمن كما أن المقر دخل في الإقرار، ولفظ الإقرار يتضمن الالتزام، ثم إنه يكون على وجهين:

أحدهما: الإخبار، وهو من هذا الوجه كلفظ التصديق والشهادة ونحوهما، وهذا معنى الإقرار الذي يذكره الفقهاء في كتاب الإقرار.

والثاني: إنشاء الالتزام، كما في قوله تعالى: أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: ٨١]، وليس هو هنا بمعنى الخبر المجرد؛ فإنه سبحانه قال: وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: ٨١]، فهذا الالتزام للإيمان والنصر للرسول، وكذلك لفظ الإيمان فيه إخبار وإنشاء والتزام، بخلاف لفظ التصديق المجرد، فمن أخبر الرجل بخبر لا يتضمن طمأنينة إلى المخبر لا يقال فيه: آمن له، بخلاف الخبر الذي يتضمن طمأنينة إلى المخبر. والمخبر قد يتضمن خبره طاعة المستمع له، وقد لا يتضمن إلا مجرد الطمأنينة إلى صدقه، فإذا تضمن طاعة المستمع لم يكن مؤمنا للمخبر إلا بالتزام طاعته مع تصديقه، بل قد استعمل لفظ الكفر المقابل للإيمان في نفس الامتناع عن الطاعة والانقياد، فقياس ذلك أن يستعمل لفظ الإيمان كما استعمل لفظ الإقرار في نفس التزام الطاعة والانقياد؛ فإن الله أمر إبليس بالسجود لآدم فأبى واستكبر وكان من الكافرين.

وأيضا: فلفظ التصديق إنما يستعمل في جنس الإخبار، فإن التصديق إخبار بصدق المخبر، والتكذيب إخبار بكذب المخبر، فقد يصدق الرجل الكاذب تارة، وقد يكذب الرجل الصادق أخرى، فالتصديق والتكذيب نوعان من الخبر، وهما خبر عن الخبر. فالحقائق الثابتة في نفسها التي قد تعلم بدون خبر لا يكاد يستعمل فيها لفظ التصديق والتكذيب إن لم يقدر يخبر عنها، بخلاف الإيمان, والإقرار, والإنكار, والجحود ونحو ذلك، فإنه يتناول الحقائق والإخبار عن الحقائق أيضا). اهـ (١) (٢).

٢ - رد شيخ الإسلام على من ادعى الإجماع على أن الإيمان لغة هو التصديق:

قال رحمه الله: وللجمهور من أهل السنة وغيرهم عن هذا أجوبة:

أحدها: (قول من ينازعه في أن الإيمان في اللغة مرادف للتصديق، ويقول: هو بمعنى الإقرار وغيره.

والثاني: قول من يقول: وإن كان في اللغة هو التصديق، فالتصديق يكون بالقلب, واللسان, وسائر الجوارح، كما قال النبي: ((والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)) (٣).


(١) هذا تأصيل نفيس، وقياس بديع، يسطر بماء العيون، فرحم الله أبا العباس، ولله دره من إمام، نصر الله به الملة، وقمع به البدعة، فهل سيفقه كلامه من تخبط في بدعة الإرجاء؟!!
(٢) ((مجموع الفتاوى)) (٧/ ٥٢٩ – ٥٣٢).
(٣) رواه البخاري (٦٦١٢) ومسلم (٢٦٥٧) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>