للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثاني عشر: أنه إذا قيل: أن الشارع خاطب الناس بلغة العرب، فإنما خاطبهم بلغتهم المعروفة، وقد جرى عرفهم أن الاسم يكون مطلقاً وعاماً، ثم يدخل فيه قيد أخص من معناه، كما يقولون: ذهب إلى القاضي والوالي والأمير يريدون شخصا معينا يعرفونه، دلت عليه اللام مع معرفتهم به، وهذا الاسم في اللغة اسم جنس لا يدل على خصوص شخص، وأمثال ذلك. فكذلك الإيمان والصلاة والزكاة، إنما خاطبهم بهذه الأسماء بلام التعريف، وقد عرفهم قبل ذلك أن المراد الإيمان الذي صفته كذا وكذا، والدعاء الذي صفته كذا وكذا، فبتقدير أن يكون في لغتهم التصديق، فإنه قد بين أنه لا يكتفي بتصديق القلب واللسان، فضلاً عن تصديق القلب وحده، بل لابد أن يعمل بموجب ذلك التصديق، كما في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات: ١٥]، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: ٢]، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تؤمنون حتى تكونوا كذا)) وفي قوله تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: ٢٢]، وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء [المائدة: ٨١]، ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة، كقوله عليه السلام: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) (١)، وقوله: ((لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه)) (٢) وأمثال ذلك. فقد بيَّن لهم أن التصديق الذي لا يكون الرجل مؤمنا إلا به هو أن يكون تصديقا على هذا الوجه، وهذا بيِّنٌ في القرآن والسنة من غير تغيير للغة، ولا نقل لها.

الثالثة عشر: أن يقال: بل نقل وغُيِّرَ، قوله: لو نقل لتواتر، قيل: نعم، وقد تواتر أنه أراد بالصلاة والزكاة والصيام والحج معانيها المعروفة، وأراد بالإيمان ما بينه بكتابه وسنة رسوله، من أن العبد لا يكون مؤمنا إلا به، كقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ وهذا متواتر في القرآن والسنن، ومتواتر أيضاً أنه لم يكن يحكم لأحد بحكم الإيمان إلا أن يؤدي الفرائض، ومتواتر عنه أنه أخبر أنه من مات مؤمنا دخل الجنة ولم يعذب، وأن الفساق لا يستحقون ذلك بل هم معرضون للعذاب، فقد تواتر عنه من معاني اسم الإيمان وأحكامه ما لم يتواتر عنه في غيره، فأي تواتر أبلغ من هذا؟ وقد توفرت الدواعي على نقل ذلك وإظهاره ولله الحمد. ولا يقدر أحد أن ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم نقلاً يناقض هذا، لكن أخبر أنه يخرج منها من كان معه شيء من الإيمان، ولم يقل: إن المؤمن يدخلها، ولا قال: إن الفساق مؤمنون، لكن أدخلهم في مسمى الإيمان في مواضع، كما أدخل المنافقين في اسم الإيمان في مواضع مع القيود، وأما الاسم المطلق الذي وعد أهله بالجنة فلم يدخل فيه لا هؤلاء ولا هؤلاء.


(١) رواه البخاري (٢٤٧٥) ومسلم (٥٧) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٢) رواه مسلم بلفظ (لا يدخل الجنة) (٤٦) ورواه أحمد (٢/ ٢٨٨) (٧٨٦٥) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>