٤ - وقال رحمه الله أيضاً: (فإن الإيمان بحسب كلام الله ورسالته. وكلام الله ورسالته يتضمن أخباره وأوامره، فيصدق القلب أخباره تصديقاً يوجب حالاً في القلب بحسب المصدق به، والتصديق هو من نوع العلم والقول. وينقاد لأمره ويستسلم، وهذا الانقياد والاستسلام هو نوع من الإرادة والعمل، ولا يكون مؤمناً إلا بمجموع الأمرين.
فمن ترك الانقياد كان مستكبراً فصار من الكافرين وإن كان مصدقاً، فالكفر أعم من التكذيب. يكون تكذيباً وجهلاً، ويكون استكباراً وظلماً، ولهذا لم يوصف إبليس إلا بالكفر والاستكبار دون التكذيب.
ولهذا كان كفر من يعلم مثل اليهود ونحوهم من جنس كفر إبليس، وكان كفر من يجهل مثل النصارى ونحوهم ضلالاً وهو الجهل، ألا ترى أن نفراً من اليهود جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسألوه عن أشياء، فأخبرهم، فقالوا: نشهد أنك نبي ولم يتبعوه، وكذلك هرقل وغيره، فلم ينفعهم هذا العلم وهذا التصديق، ألا ترى أن من صدق الرسول بأن ما جاء به هو رسالة الله، وقد تضمنت خبرا وأمرا، فإنه يحتاج إلى مقام ثان، وهو تصديقه خبر الله وانقياده لأمر الله.
فإذا قال: (أشهد أن لا إله إلا الله) فهذه الشهادة تتضمن تصديق خبره والانقياد لأمره، فإذا قال: (وأشهد أن محمداً رسول الله) تضمنت تصديق الرسول فيما جاء به من عند الله، فبمجموع هاتين الشهادتين يتم الإقرار.
فلما كان التصديق لابد منه في كلا الشهادتين – وهو الذي يتلقى الرسالة بالقبول – ظن من ظن أنه أصل لجميع الإيمان، وغفل عن أن الأصل الآخر لابد منه وهو الانقياد، وإلا فقد يصدق الرسول ظاهراً وباطناً ثم يمتنع من الانقياد للأمر، إذ غايته في تصديق الرسول أن يكون بمنزلة من سمع الرسالة من الله سبحانه وتعالى – كإبليس -.
وهذا مما يبين لك أن الاستهزاء بالله ورسوله ينافي الانقياد له، والطاعة منفاة ذاتية، وينافي التصديق بطريق الاستلزام؛ لأنه ينافي موجب التصديق ومقتضاه، ويمنعه عن حصول ثمرته مقصوده. لكن الإيمان بالرسول إنما يعود أصله إلى التصديق فقط؛ لأنه مبلغ لخبر الله وأمره، لكن يستلزم الانقياد له؛ لأنه قد بلغ عن الله أنه أمر بطاعته، فصار الانقياد له من تصديقه في خبره، فمن لم ينقد لأمره فهو إما مكذب له أو ممتنع عن الانقياد لربه، وكلاهما كفر صريح). اهـ (١).
فهذا واضح جلي في أن الإقرار والانقياد لازم للتصديق القلبي، فهل سيعقل ذلك من نقل عن شيخ الإسلام رحمه الله خلافه؟!!
الشبهة الخامسة: قالوا: إن الله تعالى خاطب المؤمنين باسم الإيمان قبل وجود الأعمال، فدل ذلك على تحقيق الإيمان بدونها.
الجواب عن هذه الشبهة: قد أجاب عن هذه الشبهة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال: الجواب عن قولهم: خوطبوا بالإيمان قبل الأعمال، فنقول: يفرض عليهم ما خوطبوا بفرضه، فلما نزل إن لم يقروا بوجوبه لم يكونوا مؤمنين، ولهذا قال تعالى: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران: ٩٧] ولهذا لم يجيء ذكر الحج في أكثر الأحاديث التي فيها ذكر الإسلام والإيمان، كحديث وفد عبد القيس، وحديث الرجل النجدي الذي يقال له: ضمام بن ثعلبة وغيرهما، وإنما جاء ذكر الحج في حديث ابن عمر وجبريل؛ وذلك لأن الحج آخر ما فرض من الخمس، فكان قبل فرضه لا يدخل في الإيمان والإسلام، فلما فرض أدخله النبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان إذا أفرد، وأدخله في الإسلام إذا قرن بالإيمان وإذا أفرد، وسنذكر إن شاء الله متى فرض الحج.
(١) ((الصارم المسلول)) (٣/ ٩٦٧ – ٩٦٩).