وتأمل حال الشمس والقمر في طلوعهما وغروبها لإقامة دولتي الليل والنهار، ولولا طلوعهما لبطل أمر العالم، وكيف كان الناس يسعون في معاشهم، ويتصرفون في أمورهم، والدنيا مظلمة عليهم وكيف كانوا يتهنون بالعيش مع فقد النور فـ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان: ٦١ - ٦٢].
وتأمل خلق الحيوانات على اختلاف صفاته وأجناسه وأشكاله ومنافعه وألوانه وعجائبه المودعة فيه، فمنه الماشي على بطنه ومنه الماشي على رجليه، ومنه الماشي على أربع، ومنه ما جعل سلاحه في رجليه وهو ذو المخالب، ومنه ما جعل سلاحه المناقير كالنسر والرخم والغراب، ومنه ما جعل سلاحه الأسنان، ومنه ما جعل سلاحه القرون يدافع عن نفسه.
وتأمل وخذ العبرة عموماً من وضع هذا العالم وتأليف أجزائه ونظمها على أحسن نظام وأدلة على كمال قدرة خالقه وكمال علمه، وكمال حكمته وكمال لطفه، فإنك إذا تأملت العالم وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع آلاته ومصالحه وكل ما يحتاج إليه، فالسماء سقفه المرفوع عليه، والأرض مهاده بساط وفراش ومستقر للساكن، والشمس والقمر سراجان يزهران فيه، والنجوم مصابيح له وزينة وأدلة للمتنقل في طرق هذه الدار والجواهر والمعادن مخزونة فيه، كالذخائر والحواصل المعدة المهيأة كل شيء منها لشأنه الذي يصلح له وضروب النبات مهيأة لمآربه، وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه فمنها الركوب ومنها الحلوب ومنها الغذاء ومنها اللباس والأمتعة والآلات، ومنها الحرس، وجعل الإنسان كالملك المخول في ذلك المحكم فيه، المتصرف بفعله وأمره ففي هذا أعظم دلالة وأقوى برهان على الخالق العليم الحكيم الخبير، الذي قدر خلقه أحسن تقدير، ونظمه أحسن تنظيم.
بل وتأمل وخذ العبرة على وجه الخصوص من خلق الله لك أيها الإنسان وتأمل في مبدأ خلقك ووسطه وآخره، فانظر بعين البصيرة، إلى أول خلقك من نطفة من ماء مهين مستقذر كيف استخرجها رب الأرباب من بين الصلب والترائب منقادة لقدرته، على ضيق طرقها واختلاف مجاريها إلى أن ساقها إلى مستقرها ومجمعها، وكيف جمع سبحانه بين الذكر والأنثى، وألقى المحبة بينهما، وكيف قادهما بسلسلة الشهوة والمحبة إلى الاجتماع الذي هو سبب تخليق الولد وتكوينه، وتكيف قدر اجتماع ذينك الماءين مع بُعد كل منهما عن صاحبه، وساقهما من أعماق العروق والأعضاء، وجمعهما في موضع واحد جعل لهما قراراً مكيناً لا يناله هواء يفسده ولا برد يجمده ولا عارض يصل إليه، ثم قلّب تلك النطفة البيضاء المشربة علقة حمراء تضرب إلى سواد، ثم جعلها مضغة لحم مخالفة للعلقة في لونها وحقيقتها وشكلها، ثم جعلها عظاماً مجردة لا كسوة عليها مباينة للمضغة في شكلها وهيئتها وقدرها وملمسها ولونها، وهكذا تندرج أطوار خلق الإنسان إلى أن يخرج بهذه الصور التي صوره الله عليها فشقّ له السمع والبصر والفم والأنف وسائر المنافذ ومد اليدين والرجلين وبسطهما وقسم رؤوسهما بالأصابع، ثم قسّم الأصابع بالأنامل، وركّب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطحال والرئة والرحم والمثانة والأمعاء كل واحد منها له قدر يخصه ومنفعة تخصه (١) فسبحان الذي خلق فسوى والذي قدّر فهدى القائل: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: ٢١].
(١) ((مفتاح دار السعادة)) (ص: ٢٠٥ - ٢٢٦) ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: ٢٩٥) ((شفاء العليل)) (ص: ٦٦) ((العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني)) (١/ ٢٠٩).