قال: فالإيمان المستفاد من الأدلة الكلامية ضعيف جدا، مشرف على التزلزل بكل شبهة، انتهى فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم كانوا يعلمون أن العوام وأجلاف العرب يعلمون الأدلة إجمالا، كما أجاب به الأعرابي الأصمعي عن دليل سؤاله: بم عرفت ربك؟ فقال البعرة تدل على البعير، وأثر الأقدام يدل على المسير، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج، ألا تدل على اللطيف الخبير.
فلذلك لم يلزموهم بالنظر، ولا سألوهم عنه، ولا أرجئوا أمرهم فلما كان كذلك، لم يكن اكتفاؤهم بمجرد الإقرار دليلا على عدم وجوب النظر على الأعيان، ولا على أن تاركه غير آثم. فالجواب: ما ذكروه دعوى بلا دليل، وحكاية الأعرابي لا تدل على أن جميع الأجلاف والعوام كانوا عالمين بالأدلة إجمالا، فإن المثال الجزئي لا يصحح القواعد الكلية، والعقول مختلفة الأمزجة متفاوتة أشد تفاوت، فوجود فرد من الأعراب قوي العقل نافذ البصيرة لا يدل على أن كل الأعراب والأجلاف كذلك بلا خفاء.
ويوضحه أن من الذين أسلموا في عهدهم كانوا يكونون عجما ونساء، وقبلوا منهم الإسلام ولم يأمروهم بالنظر ولم يرجئوهم، أيضا كان أهل الشرك من قريش يجادلون ويناضلون عن آلهتهم، و: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ [الصافات: ٣٦]، وقالوا أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص: ٥]، ...
(الثاني) ... أن التقليد الصحيح محصل للعلم، بمعنى أن المقلد تقليدا صحيحا لا يصدق بما ألقي إليه من العقائد إلا بعد انكشاف صدقها عنده من غير أن يكون له دليل عليها، وقد جاء في محكم الذكر فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ [الأنعام: ١٢٥] ...
(الثالث) قد نقل عن أبي الحسن الأشعري أنه لا بد من انبناء الاعتقاد في كل مسألة من الأصول على دليل عقلي، لكن لا يشترط الاقتدار على التعبير عنه، وعلى مجادلة الخصوم، ودفع الشبه، قال السعد التفتازاني في (شرح المقاصد): هذا هو المشهور عن الأشعري حتى حكي عنه أن من لم يكن كذلك لم يكن مؤمنا. انتهى.
قال في جمع الجوامع: وعن الأشعري لا يصح إيمان المقلد. قال شارحه: وشنَّع عليه أقوام بأنه يلزمه تكفير العوام، وهم غالب المؤمنين، وقال القشيري: مكذوب عليه.
قال التاج السبكي: والتحقيق أنه إن كان التقليد أخذا لقول الغير بغير حجة مع احتمال شك أو وهم بأن لا يجزم به، فلا يكفي إيمان المقلد قطعا؛ لأنه لا إيمان مع أدنى تردد فيه، وإن كان التقليد أخذا لقول الغير بغير حجة لكن جزما فيكفي إيمان المقلد عند الأشعري وغيره خلافا لأبي هاشم المعتزلي في قوله: لا يكفي بل لا بد لصحة الإيمان من النظر.
وقد وافق النقل عن الأشعري جماعة منهم القاضي، وإمام الحرمين وغيرهما، قالوا: قال الجمهور بعدم صحة الاكتفاء بالتقليد في العقائد الدينية حتى زعم بعضهم أنه مجمع عليه، وعزاه ابن القصار للإمام مالك - رضي الله عنه -.
والمشهور نقل بعضهم عن الجمهور عدم جواز التقليد في العقائد الدينية وأنهم اختلفوا في المقلد، منهم من قال: إنه مؤمن إلا أنه عاص بترك المعرفة التي ينتجها النظر الصحيح، ومنهم من فصَّل فقال: هو مؤمن عاص، إن كان فيه أهلية لفهم النظر الصحيح، وغير عاص إن لم يكن فيه أهلية ذلك، ومنهم من نقل عن طائفة أن من قلد القرآن والسنة القطعية صح إيمانه لاتباعه القطعي، ومن قلد غير ذلك لم يصح إيمانه لعدم أمن الخطأ على غير المعصوم، ومنهم من جعل النظر والاستدلال شرطا للكمال، ومنهم من حرم النظر كما مر ذلك.