للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد يظن البعض بأن السير على منهج أهل التوسط فيه انتقاص من قدر النبي صلى الله عليه وسلم وغمط لحقه، والأمر على عكس ما يظنون فالذي يعتقده السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين أن الحق الواجب أن يثنى على النبي صلى الله عليه وسلم بما هو أهل له من الخصائص الثابتة له التي خصه الله بها, والفضائل العظيمة التي شرفه بها, والصفات الحقيقية والخلقية التي كان عليها, وذلك للتعرف وتعريف الناس بفضله ومكانته وعظيم قدره عند الله وعند خلقه حتى يتأسى ويقتدى به في أقواله وأفعاله, فهو الأسوة والقدوة عليه أفضل الصلاة والتسليم قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب: ٢١].

فمن صميم المحبة له صلى الله عليه وسلم الاشتغال بمعرفة سيرته بقصد التأسي والاقتداء بما كان عليه من كريم الخصال, ومحاسن الأفعال والأقوال. وكذا معرفة شمائله, ودلائل نبوته التي تعمق إيمان المسلم بصدق نبوته, وتزيد في محبته وتعظيمه صلى الله عليه وسلم. ولقد اهتم السلف بهذه الجوانب وأولوها رعايتهم واهتمامهم, فاعتنوا بتأليف المؤلفات التي أوضحت هذه الجوانب وأبرزتها, فقد ألفت لهذا الغرض كتب الشمائل التي اعتنت بذكر صفاته وأحواله في عباداته, وخلقه, وهديه, ومعاملاته (١)، كما ألفت كتب الدلائل التي اعتنت بدلائل وعلامات نبوته صلى الله عليه وسلم (٢).

هذا بالإضافة إلى ما كتب في الفضائل والخصائص التي كانت للنبي صلى الله عليه وسلم. كما اعتنوا بأصل هذه الجوانب جميعها ألا وهو سيرته الشريفة صلى الله عليه وسلم, فقد ألفت لهذا الغرض المؤلفات التي اعتنت بحياته منذ ولادته إلى وفاته, وضمت في جوانب ذلك الحديث عن نشأته, وبعثته, وما حدث له من الأمور قبل الهجرة وبعدها, وما كان من أمر دعوته, وغزواته, وسراياه, وما يتعلق بهذه الجوانب وغيرها مما هو داخل في سيرته (٣). فقد دونت هذه الجوانب جميعها وخدمت بقصد أن يتأسى الناس به صلى الله عليه وسلم, وأن يتعرفوا على كمال ذاته صلى الله عليه وسلم وما تميز به من صفات، وتفرد به من أخلاق, لتزيد تلك المعرفة من محبتهم له, وتنميتها في قلوبهم, ولتبعث في نفوسهم تعظيمه وإجلاله.

وبهذا يعلم أن أهل التوسط لم ينتقصوا من قدره صلى الله عليه وسلم, بل حفظوا وحافظوا على كل ما من شأنه أن يضمن استمرارية محبة الأمة وتعظيمها له.

فهذه حال أهل التوسط وهذا هو منهجهم, فمن أراد أن يسير على النهج القويم, ويسلك الصراط المستقيم فعليه بسبيل أهل الإيمان وطريقهم, ألا وهو الكتاب والسنة, فذاك طريق الحق، والحق أحق أن يتبع.

وهذا منهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين، فقد كانت محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم تحكمها قواعد الكتاب والسنة، فما أمر به الشارع ائتمروا به, وما نهى عنه الشارع انتهوا عنه، ولم يحكموا في هذه المحبة عواطفهم وأهواءهم كما فعل أهل الإفراط الذين زلت بهم أقدامهم بسبب غلوهم في حقه, ذاك الغلو الذي دفعهم إليه تحكيم أهوائهم، وهو غلو ما أنزل الله به من سلطان, بل إن نصوص الشرع تنص على تحريمه، وإنه ليصدق وصف أهل الإفراط بقوله تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص: ٥٠].

فخلاصة القول في هذا الجانب أن المفهوم الصحيح لمحبته صلى الله عليه وسلم يتمثل في ذلك المفهوم الذي كان عليه سلف الأمة وأئمتها من الصحابة, والتابعين, وتابعيهم, ومن سار على نهجهم وسلك سبيلهم. ذلك المفهوم المستمد من آيات القرآن ونصوص السنة والذي لم يخرج عنهما قيد أنملة. حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته لمحمد خليفة التميمي -١/ ٢٨٩


(١) من تلك الكتب: كتاب ((الشمائل)) للترمذي، وكتاب ((الشمائل)) لابن كثير.
(٢) منها: كتاب ((دلائل النبوة)) لأبي نعيم الأصبهاني، وكتاب ((دلائل النبوة)) للبيهقي.
(٣) ومن أشمل الكتب التي تحدثت عن سيرته صلى الله عليه وسلم كتاب ((السيرة لابن كثير)).

<<  <  ج: ص:  >  >>