للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من بدل دينه فاقتلوه)) (١) وهو عام يخص منه من بدله في الباطن ولم يثبت عليه ذلك في الظاهر فإنه تجرى عليه أحكام الظاهر).

ثم قال: (وإظهار الإيمان يحصن من القتل، وكلهم أجمعوا على أن أحكام الدنيا على الظاهر، والله يتولى السرائر، وقد قال صلى الله عليه وسلم لأسامة: ((هل شققت عن قلبه)). (٢) وقال للذي ساره في قتل رجل: ((أليس يصلي؟: قال: نعم، قال: أولئك الذين نهيت عن قتلهم)). (٣)

٣ - وإذا تقرر ما سبق، فإن القصد (الباطن) مع الظاهر في مسألة التكفير، له أحوال متنوعة، فقد يكون القصد مكفراً دون أن يدل عليه العمل الظاهر، ومرة يكون العمل الظاهر قاطعاً في كفر الباطن، ومرة ثالثة يتلبس المعين بما هو كفر قطعاً لكن يمنع من تكفيره الإحتمال في قصده (٤)، وحالة رابعة حيث يأتي المعين بقول مجمل، أو فعل مشكل يحصل التردد في قصده ومراده، مما يوقع تردداً وتوقفاً وإختلافاً بين العلماء في تكفيره (٥).

فمثال الحالة الأولى التي يكون فيها القصد مكفراً، لكن لايدل عليه العمل الظاهر، فمثل أعمال المنافقين التي هى في الظاهر طاعات، مع أنهم كفار حقيقة، لعدم إخلاصهم لله تعالى، قال تعالى: وَمِنَ الناسِ مَن يَقُولُ آمَنا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ [البقرة: ٨]، وإن كانوا في الظاهر تجري عليهم أحكام الإسلام كما سبق، ومثال الحالة الثانية التي يكون فيها العمل الظاهر قاطعاً في كفر الباطن فمثل سب الله تعالى، وسب رسوله صلى الله عليه وسلم ونحوها؛ لأن هذا السب لنفس الأمر كفر بذاته؛ ولا يقع من مؤمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولذا يقول ابن تيمية:

(إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهراً وباطناً، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل) (٦).

ويقول أيضاً: (لو أخذ يلقي المصحف في الحش، ويقول أشهد أن ما فيه كلام الله، أو جعل يقتل نبياً من الأنبياء، ويقول أشهد أنه رسول الله، ونحو ذلك من الأفعال التي تنافي إيمان القلب، فإذا قال أنا مؤمن بقلبي مع هذه الحال كان كاذباً فيما أظهره من القول) (٧).

ومثال الحالة الثالثة والتي يقوم بالمعين ما هو كفر قطعاً، لكن يمنع من تكفيره الاحتمال في قصده، ما جاء في الحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اطحنوني، ثم ذروني في الريح، فو الله لئن قدر الله عليّ ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً، فلما مات، فعل به ذلك، فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك منه، ففعلت فإذا هو قائم، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: _ يارب خشيتك، فغفر له)).) (٨)


(١) رواه البخاري (٦٩٢٢). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(٢) الحديث بنحوه رواه البخاري (٦٨٧٢)، ومسلم (٩٦).
(٣) رواه عبد بن حميد في ((مسنده)) (٤٩٠)، والبيهقي (٣/ ٣٦٧). من حديث عبدالله بن عدي بن الحمراء. قال البوصيري في ((إتحاف الخيرة)) (١/ ٢٢):هذا إسناد رجاله رجال الصحيح. وقال الذهبي في ((المهذب)) (٣/ ١٢٩٥): هذا إسناد رجاله رجال الصحيح.
(٤) انظر هذه الحالات الثلاث تفصيلاً في رسالة ((ضوابط التكفير)) (ص ٢٧٤ - ٢٩٧).
(٥) انظر هذه الحالة تفصيلاً في ((الشفا)) (٢/ ٩٧٨ - ٩٨٥).
(٦) ((الصارم المسلول)) (ص: ٥١٢).
(٧) ((مجموع الفتاوى)) (٧/ ٦١٦)، وانظر ((شرح الأصفهانية)) (ص ١٤٢)، و ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (٣/ ١٠٧).
(٨) رواه البخاري (٣٤٨١)، ومسلم (٢٧٥٦). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>