للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ونختم هذه الفقرة بتفصيل جيد ذكره الشيخ ابن سعدي – رحمه الله – بين فيه موقف السلف من المبتدعة ومن يعذر منهم ومن لا يعذر، قال: (أما أهل السنة والجماعة فيسلكون معهم ومع جميع أهل البدع المسلك المستقيم المبني على الأصول الشرعية والقواعد المرضية، ينصفونهم، ولا يكفرون منهم إلا من كفره الله ورسوله، ويعتقدون أن الحكم بالكفر والإيمان من أكبر حقوق الله وحقوق رسوله، فمن جحد ما جاء به الرسول أو جحد بعضه غير متأوّل من أهل البدع فهو كافر، لأنه كذب الله ورسوله واستكبر على الحق وعانده، فكل مبتدع من جهمي وقدري وخارجي ورافضي ونحوهم عرف أن بدعته مناقضة لما جاء به الكتاب والسنة ثم أصر عليها ونصرها فهو كافر بالله العظيم مشاق لله ورسوله من بعد ما تبين له الهدى، زمن كان من أهل البدع مؤمناً بالله ورسوله ظاهراً وباطناً معظماً لله ورسوله ملتزماً ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه خالف الحق وأخطأ في بعض المقالات وأخطأ في تأويله، من غير كفر وجحد للهدى الذي تبين له لم يكن كافراً، ولكنه يكون فاسقاً مبتدعاً، أو مبتدعاً ضالاً، أو معفواً عنه لخفاء المقالة، وقوة اجتهاده في طلب الحق الذي لم يظفر به، ولهذا كان الخوارج والمعتزلة والقدرية ونحوهم من أهل البدع أقساماً متنوعة: منهم من هو كافر بلا ريب كغلاة الجهمية (١)، الذين نفوا الأسماء والصفات وقد عرفوا أن بدعتهم مخالفة لما جاء به الرسول، فهؤلاء مكذبون للرسول عالمون بذلك، ومنهم من هو مبتدع ضال فاسق كالخوارج المتأولين والمعتزلة الذين ليس عندهم تكذيب للرسول ولكنهم ضلوا ببدعتهم، وظنوا أن ما هم عليه هو الحق، ولهذا اتفق الصحابة رضي الله عنهم، في الحكم على بدعة الخوارج ومروقهم كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة فيهم، واتفقوا – أيضاً على عدم خروجهم من الإسلام (٢) مع أنهم استحلوا دماء المسلمين، وأنكروا الشفاعة في أهل الكبائر، وكثيراً من الأصول الدينية، ولكن تأويلهم منع من تكفيرهم، ومن أهل البدع من هو دون هؤلاء ككثير من القدرية وكالكلابية والأشعرية، فهؤلاء مبتدعة ضالون في الأصول التي خالفوا فيها الكتاب والسنة، وهي معروفة مشهورة، وهم في بدعهم مراتب بحسب بعدهم عن الحق وقربهم، وبحسب بغيهم على أهل الحق بالتكفير والتفسيق والتبديع، وبحسب قدرتهم على الوصول إلى الحق، واجتهادهم فيه، وضد ذلك، وتفصيل القول فيه يطول جداً ... ) (٣) وخلاصة موقف السلف من المتأوِّلين أنهم لا يحكمون على جميع الفرق المتأوّلة المنتسبة لهذه الأمة، حكماً عاماً بالكفر أو عدمه، وإذا حكموا على بعضها بالكفر (كحكمهم على غلاة الجهمية) فيفرقون بين الحكم العام، وبين الحكم على المعين، فالمعينون متفاوتون بحسب قيام الحجة عليهم أو عدم قيامها، وبحسب اجتهادهم وتأويلهم، أو استكبارهم وجحدهم، ففيهم المنافق والزنديق، وفيهم المبتدع الضال، وفيهم الفاسق، وفيهم المجتهد المغفور له خطؤه والله أعلم. نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي– ٢/ ٣١


(١) مع التفريق: بين التكفير بالعموم والتعيين.
(٢) ذكر الإمام الطبري والخطابي الإجماع على كفر الخوارج، ونقل عن غيرهم من الأئمة خلاف ذلك، انظر ((فتح الباري)) (١٢/ ٢٩٩ – ٣٠١)، و ((الفتاوى)) (٣/ ٢٨)، ((إيثار الحق)) (ص: ٤٢٩)، ((العواصم والقواصم)) (٤/ ٣٦٩)، وغيرها.
(٣) ((توضيح الكافية الشافية)) (ص: ١٥٦ – ١٥٨)، وانظر نصاً مشابهاً في ((الإرشاد إلى معرفة الأحكام)) (ص: ٢٠٧ – ٢٠٩)، وانظر في مسألة إكفار المتأولين، ((الشفا)) للقاضي عياض (٢/ ١٠٥١ – ١٠٨٦)، ((إيثار الحق على الخلق)) (ص: ٤٢٠ – ٤٥٠)، و ((القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى)) للشيخ محمد العثيمين (ص: ٨٧ – ٨٩) وتفصيل جيد لسعيد بن ناصر الغامدي في ((حقيقة البدعة وأحكامها)) (٢/ ٢٦٢ - ٣٠٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>