للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يقول الإمام الشافعي رحمه الله: (دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن فرض الهجرة على من أطاقها، إنما هو على من فتن عن دينه بالبلد الذي يسلم بها، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لقوم بمكة أن يقيموا بها بعد إسلامهم، العباس بن عبد المطلب وغيره إذا لم يخافوا الفتنة، وكان يأمر جيوشه أن يقولون لمن أسلم: ((إن هاجرتم فلكم ما للمهاجرين، وإن أقمتم فأنتم كأعراب))، وليس يخيرهم إلاّ فيما يحل لهم) (١).

لكن ليس كل أحد يفتن في دينه يستطيع الهجرة فما الحكم؟

إن الواجب على المسلم أن يظهر دينه بقدر استطاعته، فإن خاف الفتنة ولم يستطع الهجرة جاز له كتمان دينه وعدم إظهاره لئلا يفتن.

لكن مع الاستمساك به في الخفاء، وعدم مشايعة الكفار على كفرهم، بل ولا على معاصيهم ابتداءً من غير إكراه يبيح ذلك.

ومن هذا يعلم أن إنكار من كان حاله كذلك لا يمكن في الظاهر باليد ولا باللسان، فيكفيه حينئذ الإنكار بالقلب الذي هو كره الكفر وأهله، وعدم الرضى عنهم وعن كفرهم، لأنه لا يمكنه إلاّ ذلك. وهذا هو معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) (٢).

وفي معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث ((فإن لم يستطع فبقلبه)) يقول الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: (معناه فليكره بقلبه، وليس ذلك بإزالة وتغيير، لكنه هو الذي في وسعه وفي هذا الحديث دليل أن من خاف من القتل أو الضرب سقط عنه التغيير، وهو مذهب المحققين سلفاً وخلفاً، وذهبت طائفة من الغلاة إلى أنه لا يسقط وإن خاف ذلك) (٣).

وأما من استطاع إنكار المنكر في الظاهر فلم يفعل فإنه يأثم لتركه الواجب عليه في ذلك. لكنه لا يكفر بمجرد عدم إنكاره مع قدرته حتى يتحقق منه ما يستوجب الكفر في الظاهر من قول أو فعل.

وقد شذ عن هذه القاعدة من يرون أن الأصل في الناس اليوم هو الكفر. فلم يكفهم اشتراط التبين لإثبات وصف الإسلام مع وجود ما يدل عليه من الإقرار أو ما يقوم مقامه بدعوى أن الناس يجهلون مفهوم الشهادتين. حتى حكموا بأن عدم الاعتراض الظاهر على من يحكمون غير الشريعة من القوانين الوضعية دليل كاف على الرضى في الباطن. وأنهم بذلك قد شايعوا حكامهم وتابعوهم على عدم تحكيم الشريعة. وأن ذلك هو الأصل فيهم، حتى يظهر منهم ما يدل على خلافه بعد التبين. ونتيجة هذا القول أن من لم يتبين إسلامه ولم يهاجر في مثل هذه الظروف يكون كافراً، لا ولاية بينه وبين المسلمين.

ويعتمدون في ذلك على ما يفهمونه من آيات الأنفال، في نفي الولاية بين المسلمين المهاجرين، وبين من أسلم بمكة ولم يهاجر.

والآيات هي قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الأنفال: ٧٢].


(١) ((الأم)) (٤/ ١٦٩ - ١٧٠) للإمام الشافعي, وانظر: ((السنن الكبرى)) (٩/ ١٥) للبيهقي.
(٢) رواه مسلم (٤٩). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(٣) ((شرح الأربعين النووية)) (ص: ١٠٥) لابن دقيق العيد.

<<  <  ج: ص:  >  >>