للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فليتأمل الناصح لنفسه هذه القصة، وما أنزل الله فيها من الآيات، فإن أولئك لو تكلموا الكفر، وفعلوا كفراً ظاهراً يرضون به قومهم لم يتأسف الصحابة على قتلهم، لأن الله بين لهم وهم بمكة لما عذبوا قوله تعالى: مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل: ١٠٦].

فلو كانوا سمعوا عنهم كلاماً أو فعلا يرضون به المشركين من غير إكراه ما كانوا يقولون: قتلنا إخواننا) (١).

ثانياً ـ التقية بإظهار الكفر:

لا يجوز بحال إظهار الكفر ابتداء من غير إكراه بدعوى التقية، بل لا يجوز ذلك بما هو معصية.

ولهذا لما فعل حاطب بن أبى بلتعة رضي الله عنه ما فعل، من مكاتبة كفار قريش بخبر مسير الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه لفتح مكة لم يعذره الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى إن بعض الصحابة كعمر رضي الله عنه قال: إنه قد نافق.

لكن الرسول صلى الله عليه وسلم تبين حاله، لاحتمال أن يكون فعله كفراً وردة عن الإسلام، أو أن يكون معصية لا تخرجه من الملة.

فلما تبين للرسول صلى الله عليه وسلم حاله، وأنه إنما كاتب قريشاً مصانعة ومداهنة لهم، وتقية لأجل حفظ ماله وأهله بمكة، لا مظاهرة للمشركين ولا موالاة لهم على دينهم لم يكفره، وكانت تلك المعصية منه مغفورة بحسنته العظمى يوم بدر. فإذا كان هذا في معصية ولم يعذر حاطب رضي الله عنه، بل كان آثماً بذلك فكيف بالكفر؟.

فالتظاهر بكفر أو معصية من دون عذر يبيح ذلك يوجب المؤاخذة بحسب ما تحقق في الظاهر من كفر أو معصية.

وهذا الاشتراط في التقية هو حقيقة الفرق بين منهج أهل السنة في التقية ومنهج الشيعة في ذلك فإن التقية عندهم هي الأصل، فتباح من دون إكراه موجب، بل لمجرد احتمال الضرر ولو لم يتحقق فعلا وهذا في الحقيقة نفاق وليس من التقية في شيء.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان هذه المسألة: (التقاة ليست بأن أكذب وأقول بلساني ما ليس في قلبي، فإن هذا نفاق، ولكن أفعل ما أقدر عليه كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) (٢).

فالمؤمن إذا كان بين الكفار والفجار لم يكن عليه أن يجاهدهم بيده مع عجزه، لكن إن أمكنه بلسانه وإلا فبقلبه. مع أنه لا يكذب ويقول بلسانه ما ليس في قلبه، إما أن يظهر دينه وإما أن يكتمه، وهو مع هذا لا يوافقهم على دينهم كله، بل غايته أن يكون كمؤمن آل فرعون وامرأة فرعون. وهو لم يكن موافقا لهم على جميع دينهم، ولا كان يكذب ولا يقول بلسانه ما ليس في قلبه، بل كان يكتم إيمانه، وكتمان الدين شيء وإظهار الدين الباطل شيء آخر، فهذا لم يبحه الله إلا لمن أكره، بحيث أبيح له النطق بكلمة الكفر، والله تعالى قد فرق بين المنافق والمكره. والرافضة حالهم من جنس حال المنافقين، لا من جنس حال المكره الذي أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان) (٣).

ومن هنا نعلم الفرق بين المناط في الإعذار بكتمان الدين، وأنه العجز عن إظهاره ولو لم يكن إكراه. وأما إظهار الكفر والمعصية فلابد

لإباحة التقية فيه الإكراه.

وذلك لأن القيام بتحقيق المطلوب مشروط بالاستطاعة، وأما ترك المنهي فالأصل فيه الترك، وليس مما تشترط فيه الاستطاعة، وإنما يكون اشتراط الاستطاعة عند الإكراه على المخالفة بفعل المنهي عنه.


(١) ((مختصر سيرة الرسول، ضمن المجموع)) (ص: ٣٣، ٣٤).
(٢) رواه مسلم (٤٩). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(٣) ((منهاج السنة النبوية)) شيخ الإسلام ابن تيمية (٦/ ٤٢٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>