للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وها هو المصطفى صلى الله عليه وسلم أصابه همٌّ عظيم وقلق وانشغل باله فيما قذف المنافقون عائشة رضي الله عنها، ومكث أياماً يستشير أصحابه في الأمر، ولم يعلم حقيقة الأمر حتى أنزل الله عز وجل براءتها وكذب المنافقين (١)، فكل هذه الآيات والأخبار تدل دلالة قطعية على أن الأنبياء لا يعلمون الغيب فإذا كان الأنبياء الأصفياء المقربون لا يعلمون ذلك، فغيرهم من باب أولى.

أما الاستثناء الوارد في قوله تعالى: إِلا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ [الجن:٢٩] , فمعناه: (أي من اصطفاه من الرسل، أو من ارتضاه منهم لإظهاره على بعض غيبه، ليكون ذلك دالًّا على نبوته) (٢).

وقال الإمام ابن العربي المالكي: (وعند الله تعالى علم الغيب وبيده الطرق الموصلة إليه لا يملكها إلا هو، فمن شاء إطلاعه عليها أطلعه، ومن شاء حجبه عنها حجبه، فلا يكون ذلك من إفاضته إلا على رسله بدليل قوله تعالى: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران: ١٧٩] وقال الطيبي: ( .. فلا يظهر إظهاراً تامًّا وكشافاً جليًّا إلا لرسول يوحى إليه مع ملك وحفظة، ولذلك قال: فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدً [الجن: ٢٧] , وتعليله بقوله: لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ [الجن: ٢٨] , وأما الكرامات فهي من قبيل التلويح واللمحات، وليسوا في ذلك كالأنبياء) (٣)، وقال الحافظ ابن حجر: (وفي الآية رد على المنجمين، وعلى من يدعي أنه مطلع على ما سيكون من حياة أو موت أو غير ذلك؛ لأنه مكذب للقرآن وهم (أي المنجمين ومن في حكمهم) أبعد شيء من الارتضاء مع سلب صفة الرسولية عنهم) (٤).

إذاً الآية صريحة الدلالة في أن الغيب مختص به ولا سبيل إلى علمه إلا من إخبار الله تعالى لمن يشاء من رسله وأنبيائه. ومن أمثلة ذلك ما ذكره الله عز وجل عن يوسف عليه السلام، قال تعالى: قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [يوسف: ٣٧] وقوله عن عيسى عليه السلام: وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران: ٤٩].


(١) انظر ((الدين الخالص)) (١/ ٤٢٥) ((الفكر الصوفي)) (ص: ١٤٥).
(٢) ((فتح القدير)) (٥/ ٣١١)، وانظر ((تفسير القرطبي)) (١٩/ ٢٨).
(٣) ((أحكام القرآن)) (٢/ ٧٣٨) لأبي بكر بن العربي.
(٤) ((فتح الباري)) (١٣/ ٤٦٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>