للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والمراد بقوله: لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيّ أنه إذا نطق ونطقتم فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه بصوته, وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه عالياً لكلامكم، وجهره باهراً لجهركم، حتى تكون ميزته عليكم لائحة، وسابقته واضحة، وامتيازه عن جمهوركم كشية الأبلق (١). غير خاف، لا أن تغمروا صوته بلغطكم، وتبهروا منطقه بصخبكم.

وبقوله وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ أنكم إذا كلمتموه وهو صامت فإياكم والعدول عما نهيتم عنه من رفع الصوت، بل عليكم أن لا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم، وأن تتعمدوا في مخاطبته القول البين المقرب من الهمس, الذي لا يضاهي الجهر، كما تكون مخاطبة المهيب المعظم، عاملين بقوله عز شأنه: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وليس الغرض من رفع الصوت ولا الجهر ما يقصد به الاستخفاف والاستهانة، لأن ذلك كفر، والمخاطبون مؤمنون وإنما الغرض صوت هو في نفسه والمسموع من جرسه غير مناسب لما يهاب به العظماء، ويوقر الكبراء، فيتكلف الغض منه، ورده إلى حد يميل به إلى ما يستبين فيه المأمور به من التعزير والتوقير. ولم يتناول النهي أيضاً رفع الصوت الذي لا يتأذى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما كان منهم في حرب، أو مجادلة معاند، أو إرهاب عدو أو ما أشبهه، فلم ينهوا عن الجهر مطلقاً حتى لا يسوغ لهم أن يكلموه إلا بالهمس والمخافتة، وإنما نهوا عن جهر مقيد بصفة أعلى, الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منه فيما بينهم، وهو الخلو عن مراعاة أبهة النبوة، وجلالة مقدارها، وانحطاط سائر الرتب وإن جلت عن رتبتها) (٢).

(ومن البداهة أن هذه الآيات وأمثالها في تأديب الأمة وتعليمها إنما جاءت بأسلوبها المعجز لتفخيم شأن النبي صلى الله عليه وسلم وإظهار رفعة قدره المنيف، وسمو منزلته صلى الله عليه وسلم فوق كل منزلة أحد من الخلق، وهي مسوقة في مواضعها من القرآن الكريم لتعليم الأمة أفراداً وجماعات الأدب الأكمل مع النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يتصل بمخاطبته والتحدث إليه، والإصغاء إلى حديثه، ومجالسته حتى يستشعر المؤمن بقلبه وروحه وكافة إحساساته ومشاعره ما أوجبه الله تعالى من توقيره صلى الله عليه وسلم توقيراً يجلي رفيع قدره، وعظيم مقامه، ويظهر تشريف الله تعالى له بما ميزه به على سائر الخلق، وقد اتفق أهل العلم من أئمة أعلام الأمة على أن حرمته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كحرمته في حياته) (٣).

ثالثاً: أن الله تبارك وتعالى ذم الذين ينادونه من وراء الحجرات وهي بيوت نسائه فقال: أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ , ثم أرشد تعالى إلى الأدب في ذلك فقال: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ أي: لكان لهم في ذلك الخيرة والمصلحة في الدنيا والآخرة (٤) , فكره إليهم النداء على هذه الصفة المنافية للأدب والتوقير اللائق بشخص النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن لهم ما يجب عليهم وهو الصبر والانتظار حتى يخرج إليهم, وحبب إليهم التوبة والإنابة، ورغبهم في المغفرة والرحمة (٥).


(١) معناها كما في ((حاشية ابن المنير على الكشاف)) (٤/ ٣٥١): قوله (كشية الأبلق) في الصحاح (الشية): لون يخالف معظم لون الفرس وغيره. وفيه أيضا: اللغط الصوت والجلبة. وفيه الصخب: الصياح والجلبة.
(٢) ((الكشاف)) (٣/ ٥٥٤، ٥٥٥).
(٣) كتاب ((محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم منهج ورسالة)) تأليف محمد الصادق إبراهيم عرجون (٤/ ٣٣٣).
(٤) ((تفسير ابن كثير)) (٤/ ٢٠٨).
(٥) ((في ظلال القرآن)) لسيد قطب (٦/ ٣٣٤٠) بتصرف يسير.

<<  <  ج: ص:  >  >>