للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأيضاً، فإن استتابةَ مِثْلِ هذا توجب أن لا يقام حدٌّ على ساب لله، فإنا نعلمُ أن ليس أحدٌ من الناس مصرًّا على السب لله الذي يرى أنه سبٌّ، فإن ذلك لا يدعو إليه عقلٌ ولا طبعٌ، وكلُّ ما أفضى إلى تعطيل الحدود بالكلية كان باطلاً، ولما كان استتابةُ الفساق بالأفعال يفضي إلى تعطيل الحدود لم يشرع، مع أن أحدهم قد لا يتوب من ذلك لما يدعوه إليه طبعه، وكذلك المستتاب من سب الرسول فلا يتوب لما يستحله من سبه، فاستتابةُ الساب لله الذي يسارع إلى إظهار التوبة منه كلُّ أحدٍ أولى أن لا يُشرع إذا تضمن تعطيل الحدِّ، وأوجب أن تمضمض الأفواه بهتك حرمة اسم الله والاستهزاء به.

وهذا كلام فقيهٍ، لكن يعارضه أن ما كان بهذه المثابة لا يحتاج إلى تحقيق إقامة الحد، ويكفي تعريض قائله للقتل حتى يتوب.

ولمن ينصُر الأول أن يقول: تحقيقُ إقامة الحد على السابِّ للهِ ليس لمجرَّدِ زَجْرِ الطباع عما تهواه، بل تعظيماً للهِ، وإجلالاً لذكره، وإعلاءً لكلمتهِ، وضبطاً للنفوس أن تتسرع إلى الاستهانة بجنابهِ، وتقييداً للألسنِ أن تتفوه بالانتقاص لحقه.

وأيضاً، فإن حدَّ سبِّ المخلوق وقذفه لا يسقط بإظهار التوبة، فحد سب الخالق أولى.

وأيضاً، فحدُّ الأفعال الموجبة للعقوبة لا تسقط بإظهار التوبة، فكذلك حَدُّ الأقوال، بل شأن الأقوال وتأثيرها أعظم.

وجماع الأمر أن كلَّ عقوبةٍ وجبت جزاء ونكالاً على فعلٍ أو قولٍ ماض فإنها لا تسقط التوبة بعد الرفع إلى السلطان، فسب الله أولى بذلك، ولا ينتقض هذا بتوبة الكافر والمرتد، لأن العقوبة هناك إنما هي على الاعتقاد الحاضر في الحال المستصحب من الماضي، فلا يصلح نقضاً لوجهين:

أحدهما: أن عقوبة الساب لله ليست لذنب استصحبه واستدامه، فإنه بعد انقضاء السب لم يستصحبه ولم يستدمه، وعقوبة الكافر والمرتد إنما هي الكفر الذي هو مُصِرٌّ عليه مقيم على اعتقاده.

الثاني: أن الكافر إنما يُعاقَب على اعتقاد هو الآن في قلبه، وقوله وعمله دليلٌ على ذلك الاعتقاد، حتى لو فرض أن علمنا أن كلمة الكفر التي قالها خرجت من غير اعتقادٍ لموجبها لم نكفِّره ـ بأن يكون جاهلاً بمعناها، أو مخطئاً قد غلط وسبق لسانه إليها مع قصد خلافها، ونحو ذلك ـ والسابُّ إنما يُعاقَب على انتهاكه لحرمة الله واستخفافه بحقه فيُقتل، وإن علمنا أنه لا يَسْتحسن السب لله ولا يَعتقده ديناً، إذ ليس أحدٌ من البشر يدينُ بذلك، ولا ينتقض هذا أيضاً بترك الصلاة والزكاة ونحوهما، فإنهم إنما يُعاقَبون على دوام الترك لهذه الفرائض، فإذا فعلوها زال الترك، وإن شئت أن تقول الكافر والمرتد وتاركوا الفرائض يعاقبون على عدم فعل الإيمان والفرائض، أعني على دوام هذا العدم، فإذا وُجد الإيمانُ والفرائضُ امتنعت العقوبة لانقطاع العدم، وهؤلاء يعاقَبون على وجود الأقوال والأفعال الكبيرة، لا على دوام وجودها، فإذا وُجدت مرةً لم يرتفع ذلك بالترك بعد ذلك.

وبالجملة فهذا القول له تَوَجُّهٌ وقوةٌ ... ولا خلاف في قبول التوبة فيما بينه وبين الله سبحانه وسقوط الإثم بالتوبة النصوح.

ومن الناس من سلك في ساب الله تعالى مسلكاً آخر، وهو أنه جعله من باب الزنديق ... لأن وجود السب منه - مع إظهاره للإسلام- دليلٌ على خُبث سَرِيرته، لكن هذا ضعيفٌ، فإن الكلام هنا إنما هو في سبٍّ لا يتدين به، فأما السب الذي يُتَدَيّن به ـ كالتثليث، ودعوى الصاحبة والولد ـ فحكمه حكم أنواعِ الكفر، وكذلك المقالاتُ المكفِّرةُ ـ مثل مقالةِ الجهمية، والقدرية، وغيرهم من صنوف البدع.

وإذا قبلنا توبة من سب الله سبحانه فإنه يُؤّدَّبُ أَدباً وَجِيعاً حتى يَرْدَعه عن العود إلى مثل ذلك، هكذا ذكره بعض أصحابنا، وهو قولُ أصحاب مالك في كلِّ مرتدٍّ. الصارم المسلول لابن تيمية – بتصرف - ٣/ ١٠١٧

<<  <  ج: ص:  >  >>