للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والدليل على ذلك ما روى مسلم في (صحيحه) عن زُهَيْر عن عَفَّان عن حماد عن ثابت عن أنس ((أن رجلاً كان يُتَّهَمُ بأم ولد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: اذْهَبْ فَاضْرِبْ عُنُقَه"، فأتاه عليّ فإذا هو في رَكيٍّ يتبرد، فقال له علي: اخرج، فناوله يده، فأخرجه، فإذا هو مَجْبُوبٌ ليس له ذَكَر، فكفَّ علي، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنه لمجبوبٌ ماله ذَكَر)) (١)، فهذا الرجل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه لما قد استحلَّ من حرمته، ولم يأمر بإقامة حدِّ الزنا، لأن حد الزنا ليس هو ضرب الرقبة، بل إن كان مُحصناً رُجِمَ، وإن كان غير محصن جُلد، ولا يقام عليه الحد إلا بأربعة شهداء أو بالإقرار المعتبر، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه من غير تفصيلٍ بَيْنَ أن يكون محصناً أو غير محصن عُلم أن قتله لما انتهكه من حرمته، ولعله قد شهد عنده شاهدان أنهما رَأيَاه يباشر هذه المرأة، أو شهدا بنحو ذلك، فأمر بقتله، فلما تبين أنه كان مَجْبُوباً علم أن المفسدة مأمونة منه، أو أنه بَعثَ علياً ليَستبري القصة، فإن كان ما بلغه عنه حقاً قتله، ولهذا قال في هذه القصة أو غيرها: أكون كالسكة المحماة، أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ فقال: ((بَلِ الشَّاهِدُ يَرَى مَا لاَ يَرَى الغَائِبُ)) (٢).

ويدلُ على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوَّجَ قتيلة بنت قيس بن معدي كرب أخت الأشعث، ومات قبل أن يدخل بها، وقبل أن تقدم عليه، وقيل أنه خيَّرها بين أن يضرب عليها الحجاب وتحرم على المؤمنين وبين أن يطلقها فتنكح من شاءت، فاختارت النكاح، قالوا: فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها عكرمة بن أبي جهل بحضرموت، فبلغ أبا بكر، فقال: لقد هممت أن أحرق عليهما بيتهما، فقال عمر: ما هي من أمهات المؤمنين، ولا دخل بها، ولا ضرب عليها الحجاب، وقيل: إنها ارتَدَّت، فاحتجَّ عمر على أبي بكر أنها ليس من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بارتدادها (٣).

فوجه الدلالة: أن الصدِّيق رضي الله عنه عَزَم على تحريقها وتحريق مَن تزوجها، لما رأى أنها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، حتى ناظره عمر أنها ليست من أزواجه، فكف (عنهما) لذلك، فعلم أنهم (كانوا) يَرَوْنَ قتلَ من استحل حُرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولا يقال: إن ذلك حد الزنا لأنها كانت تكون محرمة عليه، ومَن (تَزَوَّجَ) ذات مَحْرمٍ حُدَّ حَدَّ الزنا أو قُتل؛ لوجهين:

أحدهما: أن حد الزنا الرجم.

الثاني: أن ذلك الحد يفتقر إلى ثبوت الوطْءِ ببينة أو إقرار، فلما أراد تحريق البيت مع جواز ألا يكون غَشِيها عُلم أن ذلك عقوبة لما انتهكه من حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم. الصارم المسلول لابن تيمية - ٢/ ٥٨


(١) رواه مسلم (٢٧٧١).
(٢) رواه أحمد (١/ ٨٣) (٦٢٨). من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. قال ابن حجر في ((مختصر البزار)) (١/ ٦٠٥): إسناده حسن. وقال الألباني في ((صحيح الجامع)) (٣٧٢٨): صحيح.
(٣) رواه الحاكم (٤/ ٤٠). من حديث أبي عبيدة معمر بن المثنى رضي الله عنه. قال ابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (٣/ ١٣٩ - ١٤٠): روى أبو نعيم في ((المعرفة)) في ترجمة قتيلة من حديث داود عن الشعبي مرسلاً، وأخرجه البزار من وجه آخر عن داود عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه موصولاً، وصححه ابن خزيمة والضياء من طريقه في ((المختارة)) ... ورواه الحاكم بسنده إلى أبي عبيدة معمر بن المثنى رضي الله عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>