للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويقرر النووي أن هذه الأحكام ثابتة بالإجماع المعلوم عند العامة فيقول: فأما اليوم وقد شاع دين الإسلام، واستفاض في المسلمين علم وجوب الزكاة حتى عرفها الخاص والعام، واشترك فيه العالم والجاهل، فلا يعذر أحد بتأويل يتأوله في إنكارها، وكذلك الأمر في كل من أنكر شيئاً مما أجمعت الأمة عليه من أمور الدين إذا كان علمه منتشراً كالصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان، والاغتسال من الجنابة وتحريم الزنا والخمر ونكاح ذوات المحارم ...

فأما ما كان الإجماع فيه معلوماً عن طريق علم الخاصة كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها، وأن القاتل عمداً لا يرث، وأن للجدة السدس وما أشبه ذلك من الأحكام، فإن من أنكرها لا يكفر، بل يعذّر فيها لعدم استفاضة علمها في العامة (١).

ويقول - في كتاب آخر -: أطلق الإمام الرافعي القول بتكفير جاحد المجمع عليه، وليس هو على إطلاقه، بل من جحد مجمعاً عليه فيه نص، وهو من أمور الإسلام الظاهرة التي يشترك في معرفتها الخواص والعوام كالصلاة، أو الزكاة، أو الحج، أو تحريم الخمر أو الزنا ونحو ذلك فهو كافر، ومن جحد مجمعاً عليه لا يعرفه إلا الخواص كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب وتحريم نكاح المعتدة، وكما إذا أجمع أهل عصر على حكم حادثة فليس بكافر ... (٢).

ويؤكد ابن دقيق العيد على ما قرره النووي، وأن الإجماع الذي يكفر منكره، إنما يكفر لتعلقه بمخالفة النص الظاهر المتواتر، فيقول: فالمسائل الإجماعية تارة يصحبها التواتر عن صاحب الشرع كوجوب الصلاة مثلاً، وتارة لا يصحبها التواتر، فالقسم الأول يكفر جاحده لمخالفته التواتر، لا لمخالفته الإجماع، والقسم الثاني لا يكفر به (٣).

كما أننا نجد القرافي قد جعل منكر الإجماع كافراً، لكن بشرط أن يكون المجمع عليه مشتهراً في الدين فقال: ولا يعتقد أن جاحد ما أُجمع عليه يكفر على الإطلاق، بل لابد أن يكون المجمع عليه مشتهراً في الدين حتى صار ضرورياً، فكم من المسائل المجمع عليها إجماعاً لا يعلمه إلا خواص الفقهاء، فجحْدُ مثل هذه المسائل التي يخفى الإجماع فيها ليس كفراً ... (٤).

ولابن تيمية كلام قريب مما سبق إيراده عندما قال: وقد تنازع الناس في مخالف الإجماع: هل يكفر؟ على قولين. والتحقيق: أن الإجماع المعلوم يكفر مخالفه كما يكفر مخالف النص بتركه، لكن هذا لا يكون إلا فيما علم ثبوت النص به، وأما العلم بثبوت الإجماع في مسألةٍ لا نص فيها فهذا لا يقع، وأما غير المعلوم فيمتنع تكفيره (٥).

وهكذا نلحظ في عبارة ابن تيمية أنه ينفي ثبوت إجماع معلوم في مسألة لا نص فيها ... ولذا يقول في موضع آخر: فلا يوجد قَطّ مسألة مجمع عليها، إلا وفيها بيان من الرسول، ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس ويعلم الإجماع فيستدل به (٦).

ويقيد العراقي - موافقة لمن مضى ذكرهم - كفر منكر الإجماع بقوله: والصحيح في تكفير منكر الإجماع تقييده بإنكار ما علم وجوبه من الدين بالضرورة كالصلوات الخمس، ومنهم من عبر بإنكار ما علم وجوبه بالتواتر (٧).


(١) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (١/ ٢٠٥).
(٢) ((روضة الطالبين)) (٢/ ١٤٦)، وانظر: (١٠/ ٦٥)، وانظر: ((المجموع)) (٣/ ١٦).
(٣) ((إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام)) (٤/ ٨٤).
(٤) ((الفروق)) (٤/ ١١٧)، وانظر: ((الاعتصام)) للشاطبي (٢/ ٧٩٧).
(٥) ((مجموع الفتاوى)) (١٩/ ٢٦٩، ٢٧٠)، وانظر: ((مجموع الفتاوى)) (٧/ ٣٨، ٣٩)، وانظر: ((إيثار الحق)) لابن الوزير (ص٤٢٧).
(٦) ((مجموع الفتاوى)) (١٩/ ١٩٥)، وانظر: (١٩/ ٢٠٠ - ٢٠٢)، وللشافعي في ((الرسالة)) كلام بهذا المعنى (ص٤٧١).
(٧) ((فتح الباري)) (١٢/ ٢٠٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>