للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبهذا يعلم أن مما يعد كفراً ويلحق بإنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة، أن لا يقبل حكم الله تعالى، مع علمه بأنه حكم الله تعالى واعترافه به، فهو يأبى ويمتنع من قبول هذا الحكم، ولذا قال إسحاق بن راهويه: وقد أجمع العلماء أن من دفع شيئاً أنزله الله ... وهو مع ذلك مُقرّ بما أنزل الله أنه كافر (١). فمناط الكفر - هاهنا - هو الترك والرد والإباء، لا عدم التصديق، ولهذا قرن الله تعالى في كتابه كفر التولي بكفر التكذيب؛ لأنه غيره كما قال سبحانه: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة:٣١ - ٣٢]. وقال تعالى: لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل:١٥ - ١٦].

-والآن نورد بعض الاعتبارات التي جعلت إنكار حكم معلوم من الدين بالضرورة كفراً وناقضاً من نواقض الإيمان:

أ- إن هذا الإنكار افتراءً على الله سبحانه، ولا أحد أعظم ظلماً، ولا أكبر جرماً ممن افترى على الله تعالى كذباً، كما قال سبحانه:- وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:٢١].

ويقول عز وجل: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ [يونس:١٧].

وقال عز وجل: قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ [يونس:٥٩ - ٦٠].

ويقول سبحانه: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل:١١٥ - ١١٧]

يقول ابن كثير في تفسير تلك الآيات الأخيرة: ثم نهى الله تعالى عن سلوك سبيل المشركين الذين حللوا وحرموا بمجرد ما وصفوه واصطلحوا عليه من الأسماء بآرائهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وغير ذلك مما كان شرعاً لهم ابتدعوه في جاهليتهم؛ فقال: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ ويدخل في هذا كل من ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعي، أو حلل شيئاً مما حرم الله، أو حرم شيئاً مما أباح الله بمجرد رأيه وتشهيه ... ثم توعّد على ذلك فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ أي: في الدنيا ولا في الآخرة (٢)، وأما في الدنيا فمتاع قليل وأما في الآخرة فلهم عذاب أليم ... (٣).


(١) ((التمهيد)) (٤/ ٢٢٦) بتصرف يسير. وانظر: ((فتاوى محمد رشيد رضا)) (٥/ ١٧٥٢).
(٢) وكما قال الشنقيطي: الفلاح لا يُنفى بالكلية نفياً عاماً إلا عمن لا خير فيه وهو الكافر. ((أضواء البيان)) (٤/ ٢٤٢).
(٣) ((تفسير ابن كثير)) (٢/ ٥٧٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>