للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال عمر بن حبيب: (حضرت مجلس هارون الرشيد، فجرت مسألة تنازعها الحضور، وعلت أصواتهم، فاحتج أحدهم بحديث رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدفع بعضهم الحديث، وزادت المدافعة والخصومة، حين قال قائلون منهم: - لا يقبل هذا الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن أبا هريرة متهم فيما يرويه، وصرحوا بتكذيبه، ورأيت الرشيد قد نحا نحوهم، ونصر قولهم، فقلت أنا: هذا الحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو هريرة صحيح النقل، صدوق فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، فنظر إلي الرشيد نظر مغضب، وقمت من المجلس فانصرفت إلى منزلي، فلم ألبث حتى قيل صاحب البريد بالباب، فدخل فقال لي: أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول وتحنط وتكفن، فقلت: اللهم إنك تعلم أني دفعت عن صاحب نبيك وأجللت نبيك أن يطعن على أصحابه فسلمني منه، فأدخلت على الرشيد وهو جالس على كرسي من ذهب، حاسر عن ذراعيه بيده والسيف، وبين يديه النطع، فلما بصر بي قال لي: يا عمر بن حبيب، ما تلقاني أحد من الرد والدفع لقولي بمثل ما تلقيتني به، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الذي قلته وجادلت عنه فيه ازدراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى ما جاء به، إذا كان أصحابه كذابين، فالشريعة باطلة والفرائض والأحكام في الصيام والصلاة والطلاق والنكاح والحدود كله مردود غير مقبول، فرجع إلى نفسه ثم قال: أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك الله، وأمر لي بعشرة آلاف درهم) (١).

وقال ابن عقيل الحنبلي في هذا المقال: (الظاهر أن من وضع مذهب الرافضة قصد الطعن في أصل الدين والنبوة، وذلك أن الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر غائب عنا، وإنما نثق في ذلك بنقل السلف، وجودة نظر الناظرين إلى ذلك منهم ... فإذا قال قائل: - إنهم أول ما بدؤوا بعد موته بظلم أهل بيته في الخلافة، وابنته في إرثها، وما هذا إلا لسوء اعتقاد في المتوفي.

فإن الاعتقادات الصحيحة سيما في الأنبياء توجب حفظ قوانينهم بعدهم لا سيما في أهليهم وذريتهم.

فإذا قالت الرافضة: إن القوم استحلوا هذا بعده، خابت آمالنا في الشرع؛ لأنه ليس بيننا وبينه إلا النقل عنهم والثقة بهم. فإذا كان هذا محصول ما حصل لهم بعد موته خبنا في المنقول، وزالت ثقتنا فيما عولنا عليه من اتباع ذوي العقول، ولم نأمن أن يكون القوم لم يروا ما يوجب اتباعه، فراعوه مدة الحياة، وانقلبوا عن شريعته بعد الوفاة، ولم يبقى على دينه إلا الأقل من أهله، فطاحت الاعتقادات، وضعفت النفوس عن قبول الروايات في الأصل، فهذا من أعظم المحن على الشريعة) (٢).

وقال الذهبي: (فمن طعن فيهم أو سبهم، فقد خرج من الدين ومرق من ملة المسلمين؛ لأن الطعن لا يكون إلا عن اعتقاد مساويهم، وإضمار الحقد فيهم، وإنكار ما ذكره الله تعالى في كتابه من ثنائه عليهم، وما لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنائه عليهم وبيان فضائلهم ومناقبهم وحبهم ...

إلى أن قال – والطعن في الوسائط طعن الأصل، والازدراء بالناقل ازدراء بالمنقول، هذا ظاهر لمن تدبره، وسلم من النفاق، ومن الزندقة والإلحاد في عقيدته ... ) (٣).


(١) [١٠٦٣٨])) ((تهذيب الكمال)) (٢/ ١٠٠٤، ١٠٠٥).
(٢) [١٠٦٣٩])) ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص ١٠٧، ١٠٨)
(٣) [١٠٦٤٠])) ((الكبائر)) (ص ٢٨٥)

<<  <  ج: ص:  >  >>