للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فما جرى بين معاوية وعلى رضي الله عنهما صادر عن اجتهاد وتأويل.

لكن لا شك أن عليا أقرب إلى الصواب فيه من معاوية، بل قد نكاد نجزم بصوابه، إلا أنّ معاوية كان مجتهداً.

ويدل على أن عليا أقرب إلى الصواب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ويح عماراً تقتله الفئة الباغية)) (١)، فكان الذي قتله أصحاب معاوية، وبهذا عرفنا أنها فئة باغية خارجة على الإمام، لكنهم متأوّلون، والصواب مع علي إما قطعاً وإما ظناً.

وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره.

وهناك قسم رابع: وهو ما وقع منهم من سيئات حصلت لا عن اجتهاد ولا عن تأويل: فبينه المؤلف بقوله:

وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره.

لا يعتقدون ذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)) (٢).

ولكن العصمة في إجماعهم؛ فلا يمكن أن يجمعوا على شيء من كبائر الذنوب وصغائرها فيستحلوها أو يفعلوها.

ولكن الواحد منهم قد يفعل شيئاً من الكبائر، كما حصل من مسطح بن أثاثه وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش في قصة الإفك، ولكن هذا الذي حصل تطهروا منه بإقامة الحد عليهم.

بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر عنهم إن صدر

يعني: كغيرهم من البشر، لكن يمتازون عن غيرهم بما قال المؤلف رحمه الله: ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر.

هذا من الأسباب التي يمحو الله بها عنهم ما فعلوه من الصغائر أو الكبائر، وهو ما لهم من السوابق والفضائل التي لم يلحقهم فيها أحد، فهم نصروا النبي عليه الصلاة والسلام، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، وبذلوا رقابهم لإعلاء كلمة الله، فهذه توجب مغفرة ما صدر منهم، ولو كان من أعظم الذنوب، إذا لم يصل إلى الكفر.

ومن ذلك قصة حاطب بن أبي بلتعة: ((حين أرسل إلى قريش يخبرهم عن مسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، حتى أطلع الله نبيه على ذلك، فلم يصلهم الخبر، فاستأذن عمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يضرب عنق حاطب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه شهد بدراً، وما يدريك؟ لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم)) (٣).

حتى إنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم، لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهم خير القرون وإنّ المدّ من أحدهم إذا تصدّق به كان أفضل من جبل أحدٍ ذهباً من بعدهم، ثم إن كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه، أو أتي بحسنات تمحوه. أو غفر له بفضل سابقته.

وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: ((خير الناس قرني)) (٤)، وفي قوله: ((لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) (٥).


(١) رواه البخاري (٤٤٧). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(٢) رواه الترمذي (٢٤٩٩) , وابن ماجه (٤٢٥١) , والحاكم (٤/ ٢٧٢). قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث علي بن مسعدة عن قتادة, وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال ابن حجر في ((بلوغ المرام)) (٤٣٩): إسناده قوي. وحسّنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).
(٣) رواه البخاري (٣٠٠٧) , ومسلم (٢٤٩٤). من حديث علي رضي الله عنه.
(٤) رواه البخاري (٢٦٥٢) , ومسلم (٢٥٣٣). من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(٥) رواه مسلم (٢٥٤٠). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>