للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فتم الاتفاق بين الفريقين على التحكيم بعد انتهاء موقعة صفين وهو أن يحكم كل واحد منهما رجلاً من جهته، ثم يتفق الحكمان على ما فيه مصلحة المسلمين فوكل معاوية عمرو بن العاص ووكل علي أبا موسى الأشعري رضي الله عنهم جميعاً، ثم أخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين العهود والمواثيق أنهما آمنان على أنفسهما وأهلهما والأمة أنصار على الذي يتقاضيان عليه، وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين - كليهما - عهد الله وميثاقه أنهما على ما في ذلك الكتاب وأجلا القضاء إلى رمضان (١) وإن أحبا أن يؤخرا ذلك فعلى تراض منهما وكتب في يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين على أن يوافي علي ومعاوية موضع الحكمين بدومة الجندل في رمضان، ومع كل واحد من الحكمين أربعمائة من أصحابه، فإن لم يجتمعا لذلك اجتمعا من العام المقبل بأذرح ولما كان شهر رمضان جعل الاجتماع كما تشارطوا عليه وقت التحكيم بصفين وذلك أن علياً رضي الله عنه لما كان مجيء رمضان بعث أربعمائة فارس مع شريح بن هانئ ومعهم أبو موسى، وعبد الله بن عباس، وإليه الصلاة، وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة فارس من أهل الشام ومعهم عبد الله بن عمر، فتوافوا بدومة الجندل بأذرح وهي نصف المسافة بين الكوفة والشام بينها وبين كل من البلدين تسع مراحل – وشهد معهم جماعة من رؤوس الناس كعبد الله بن هشام المخزومي وعبد الرحمن بن عبد يغوث الزهري، وأبو جهم بن حذيفة فلما اجتمع الحكمان وتراوضا على المصلحة للمسلمين ونظرا في تقدير الأمور (٢) ثم اتفقا على أن يكون الفصل في موضوع النزاع بين علي ومعاوية يكون لأعيان الصحابة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم هذا ما اتفق عليه الحكمان فيما بينهما لا شيء سواه.

أما ما يذكره المؤرخون من أن الحكمين لما اجتمعا بأذرح من دومة الجندل وتفاوضا واتفقا على أن يخلعا الرجلين فقال عمرو بن العاص لأبي موسى: اسبق بالقول فتقدم فقال: إني نظرت فخلعت علياً عن الأمر وينظر المسلمون لأنفسهم كما خلعت سيفي هذا من عنقي أو من عاتقي وأخرجه من عنقه فوضعه في الأرض، وقام عمرو فوضع سيفه في الأرض وقال: إني نظرت فأثبت معاوية في الأمر: كما أثبت سيفي هذا في عاتقي وتقلده، فأنكر أبو موسى فقال عمرو: كذلك اتفقنا وتفرق الجمع على ذلك الاختلاف (٣).

فهذه الحكاية وما يشبهها من اختلاف أهل الأهواء والبدع الذين لا يعرفون قدر أبي موسى وعمرو بن العاص ومنزلتهما الرفيعة في الإسلام. قال أبو بكر بن العربي مبيناً كذب ذلك: (هذا كله كذب صراح ما جرى منه حرف قط، وإنما هو شيء أخبر عنه المبتدعة ووضعته التاريخية للملوك فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاصي الله والبدع) (٤).


(١) انظر: ((تاريخ الطبري)) (٥/ ٤٨ - ٤٩)، ((الكامل)) (٣/ ٣١٦ - ٣١٨)، ((البداية والنهاية)) (٧/ ٢٩٨ - ٢٩٩).
(٢) ((البداية والنهاية)) (٧/ ٣٠٢ - ٣٠٣، ٣٠٨ - ٣٠٩)، وانظر: ((تاريخ الأمم والملوك)) (٥/ ٦٧)، ((الكامل في التاريخ)) (٣/ ٣٢٩).
(٣) ذكره ابن العربي في ((العواصم من القواصم)) (ص: ١٧٤ - ١٧٦)، وانظر ((تاريخ الأمم والملوك)) (٥/ ٧١) ((الكامل)) لابن الأثير (٣/ ٣٣٢ - ٣٣٣)، ((البداية والنهاية)) (٧/ ٣٠٩ - ٣١٠)، و ((مروج الذهب)) (٢/ ٦٨٤ - ٦٨٥).
(٤) ((العواصم من القواصم)) (ص: ١٧٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>