للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال أبو محمد بن حزم مبيناً أن القتال الذي دار بين علي ومعاوية كان مغايراً لقتال علي الخوارج حيث قال: (وأما أمر معاوية رضي الله عنه فبخلاف ذلك ولم يقاتله علي رضي الله عنه لامتناعه من بيعته لأنه كان يسعه في ذلك ما وسع ابن عمر وغيره لكن قاتله لامتناعه من إنفاذ أوامره في جميع أرض الشام وهو الإمام الواجبة طاعته فعلي المصيب في هذا ولم ينكر معاوية قط فضل علي واستحقاقه الخلافة لكن اجتهاده أداه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان رضي الله عنه على البيعة ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان والكلام فيه من ولد عثمان وولد الحكم بن أبي العاص لسنه ولقوته على الطلب بذلك كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن سهل أخا عبد الله بن سهل المقتول بخيبر بالسكوت وهو أخو المقتول وقال له: كبر كبر فسكت عبد الرحمن وتكلم محيصة وحويصة ابنا مسعود وهما ابنا عم المقتول لأنهما كانا أسن من أخيه فلم يطلب معاوية من ذلك إلا ما كان له من الحق أن يطلبه وأصاب في ذلك الأثر الذي ذكرنا وإنما أخطأ في تقديمه ذلك على البيعة فقط فله أجر الاجتهاد في ذلك ولا إثم عليه فيما حرم من الإصابة كسائر المخطئين في اجتهادهم في الذين أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لهم أجراً واحداً وللمصيب أجران – إلى أن قال – وقد علمنا أن من لزمه حق واجب وامتنع من أدائه وقاتل دونه فإنه يجب على الإمام أن يقاتله وإن كان منا وليس بمؤثر في عدالته وفضله ولا بموجب له فسقاً بل هو مأجور لاجتهاده ونيته في طلب الخير فبهذا قطعنا على صواب علي رضي الله عنه وصحة إمامته وأنه صاحب الحق وأن له أجرين أجر الاجتهاد، وأجر الإصابة وقطعنا أن معاوية رضي الله عنه ومن معه مخطئون مجتهدون مأجورون أجراً واحداً) (١).

فابن حزم رحمة الله عليه يقرر في هذا النص أن النزاع الذي كان بين علي ومعاوية إنما هو في شأن قتلة عثمان وليس اختلافاً على الخلافة إذ أن معاوية رضي الله عنه لم ينكر فضل علي واستحقاقه للخلافة وإنما امتنع عن البيعة حتى يسلمه القتلة أو يقتلهم وكان علي رضي الله عنه يستمهله في الأمر حتى يتمكن ويفعل ذلك فتحكيمهما إذن إنما هو في محل النزاع، وليس من أجل الخلافة.

الأمر الثالث:

أن موقف أبي موسى الأشعري في التحكيم لم يكن أقل من موقف عمرو بن العاص في شيء ولذلك عد المؤرخون المنصفون هذا الموقف من مفاخر أبي موسى بعد موته بأجيال وصار مصدر فخر لأحفاده من بعده حتى قال ذو الرمة الشاعر مخاطبا بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري بأبيات منها:

أبوك تلافى الدين والناس بعدما ... تشاءوا وبيت الدين منقطع الكسر

فشد أصار الدين أيام أذرح ... ورد حروباً قد لقحن إلى عقر (٢)

فلم يول رضي الله عنه في الفصل في قضية التحكيم إلا لما علم فيه من الفطنة والعلم وقدرته على حل المعضلات فقد ولاه النبي صلى الله عليه وسلم هو ومعاذ بن جبل قبل حجة الوداع على بلاد اليمن حيث بعث كل واحد منهما على مخلاف وأوصاهما عليه الصلاة والسلام بأن ييسرا ولا يعسرا وأن يبشرا ولا ينفرا (٣) وما توليته عليه الصلاة والسلام لأبي موسى إلا لعلمه بصلاحه للإمارة.


(١) ((الفصل في الممل والنحل)) (٤/ ١٥٩ - ١٦١)، وانظر: ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (٤/ ٣٠٦).
(٢) ((ديوان ذي الرمة)) (ص: ٣٦١ - ٣٦٢)، ((معجم البلدان)) (١/ ١٣٠).
(٣) الحديث رواه البخاري (٣٠٣٨)، ومسلم (١٧٣٣). من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>