للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد تواتر عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم بايعوا أبا بكر رضي الله عنه بالخلافة بعد لحاق النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى، ثم استخلف أبو بكر عمر رضي الله تعالى عنهما، ثم استخلف عمر أحد الستة الذين اختاروا عثمان رضي الله عنه، ثم بعد استشهاده بايعوا عليًا بالخلافة، فهذه سنتهم رضي الله عنهم في الخلافة، وعدم التهاون في منصبها، فوجب الاقتداء بهم في ذلك بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -.

إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على وجوب طاعة الحكام فيما لا معصية فيه، وأحاديث البيعة، والأمر بالوفاء بها للأول فالأول، وحرمة الخروج على أئمة المسلمين، والحث على ضرب عنق من جاء ينازع الإمام الحق، ... كل هذه الأحاديث تقتضي وجود الإمام المسلم، فدلّ ذلك على وجوب نصبه. والله أعلم.

ب - من السنة الفعلية:

إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أقام أول حكومة إسلامية في المدينة، وصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول إمام لتلك الحكومة، فبعد أن هيأ الله لهذا الدين من ينصره ورسوله بدأ - صلى الله عليه وسلم - في تشييد أركانها، فأصلح ما بين الأوس والخزرج من مشاكل وحروب طاحنة قديمة، ثم آخى بين الأنصار والمهاجرين، ونظم الجيوش المجاهدة لنشر هذا الدين والذود عن حماه، وقد أرسل الرسل والدعوات إلى ملوك الدول المجاورة يدعوهم إلى الإسلام، وعقد الاتفاقات والمعاهدات مع اليهود وغيرهم، وأبان أحكام الأسرى وما يتعلق بهم، وأحكام الحرب وأهل الذمة، وقام بتدبير بيت مال المسلمين وتوزيعه كما أمر الله عز وجل، وعيَّن الأمراء والقضاة لتدبير شؤون المسلمين، وأقام الحدود الشرعية والعقوبات .. إلى غير ذلك من مظاهر الدولة ووظائف الإمامة. يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: (ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمت حتى أتى ببيان جميع ما يحتاج إليه من أمر الدين والدنيا، وهذا لا مخالف عليه من أهل السنة) (١).

ومن المعلوم أن قيام هذه الدولة وزعامته - صلى الله عليه وسلم - لها لم يكن هدفًا له في حد ذاته، وإنما هو من مستلزمات هذا الدين الذي لا يتم إلا به، كيف وقد عرضت عليه قريش من أول وهلة الملك عليها من دون تعب ولا جهاد، وإنما بترك سبِّ آلهتهم، فرفض ذلك رفضًا باتًا (٢).

وإنما كان هدفه الوحيد - صلى الله عليه وسلم - القيام بتبليغ هذه الرسالة وحملها إلى الناس، واتخاذ كافة الوسائل المؤدية إلى ذلك، ومن هذه الوسائل قيام الدولة الإسلامية، فهي واجبة لهذا الغرض، ولأنها من مستلزمات هذا الدين ...

فالمقصود أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في تولية زعامة الدولة الإسلامية الأولى دليل على وجوب الإمامة، حيث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مبينًا للأحكام الشرعية بقوله وفعله وإقراره، وفعله - صلى الله عليه وسلم - يقتضي الوجوب (٣) إذا لم يكن مختصًا به - صلى الله عليه وسلم - ولا جبلِّيا ولا مترددًا بين الجبلي وغيره، ولا بيانًا لمجمل كقطع يد السارق ونحوه لقوله تعالى: فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف: ١٥٨.]، ولقوله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ... [الحشر: ٧] ولقوله عز من قائل كريمًا فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً ... [الأحزاب: ٦٣] قال ابن النجار: (فلولا الوجوب لما رفع تزويجه الحرج عن المؤمنين في أزواج أدعيائهم) (٤).


(١) [١٢٩١٨])) ((الاعتصام)) (١/ ٤٩).
(٢) [١٢٩١٩])) ((سيرة ابن هشام)) (١/ ٢٩٣).
(٣) [١٢٩٢٠])) على خلاف بين علماء الأصول، لكن هذا هو الراجح لقوة الدليل. انظر: ((تفصيل المسألة في شرح الكوكب المنير)) لابن النجار الحنبلي (٢/ ١٨٩).
(٤) [١٢٩٢١])) ((شرح الكوكب المنير)) (٢/ ١٩٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>