للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إحداهما: أن يثبت أن ذلك شرع لهم، بنقل موثوق به، مثل أن يخبرنا الله في كتابه، أو على لسان رسوله، أو ينقل بالتواتر، ونحو ذلك، فأما مجرد الرجوع إلى قولهم، أو إلى ما في كتبهم، فلا يجوز بالاتفاق، والنبي صلى الله عليه وسلم وإن كان قد استخبرهم فأخبروه، ووقف على ما في التوراة، فإنما ذلك لأنه لا يروج عليه باطلهم، بل الله سبحانه يعرفه ما يكذبون مما يصدقون، كما قد أخبره بكذبهم غير مرة، وأما نحن فلا نأمن أن يحدثونا بالكذب، فيكون فاسق، بل كافر، قد جاءنا بنبأ فاتبعناه، وقد ثبت في (الصحيح) (١) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم)) (٢).

المقدمة الثانية: أن لا يكون في شرعنا بيان خاص لذلك، فأما إذا كان فيه بيان خاص: إما بالموافقة، أو بالمخالفة، استغني عن ذلك فيما ينهى عنه عن موافقته، ولم يثبت أنه شرع لمن كان قبلنا، وإن ثبت فقد كان هدي نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه بخلافه، وبهم أمرنا نحن أن نتبع ونقتدي، وقد أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم: أن يكون هدينا مخالفاً لهدي اليهود والنصارى، وإنما تجيء الموافقة في بعض الأحكام العارضة، لا في الهدي الراتب، والشعار الدائم.

ثم ذلك بشرط: أن لا يكون قد جاء عن نبينا وأصحابه خلافه، أو ثبت أصل شرعه في ديننا، وقد ثبت عن نبي من الأنبياء أصله أو وصفه، مثل: فداء من نذر أن يذبح ولده بشاة، ومثل: الختان المأمور به في ملة إبراهيم عليه السلام، ونحو ذلك، وليس الكلام فيه .. .. كل ما جاء من تشبه النبي صلى الله عليه وسلم بأهل الكتاب إنما كان في صدر الهجرة ثم نسخ فإذا كان أصل صومه لم يكن موافقة لأهل الكتاب، فيكون قوله: ((فنحن أحق بموسى منكم)). توكيداً لصومه، وبياناً لليهود: أن يفعلونه من موافقة موسى نحن أيضاً نفعله، فنكون أولى بموسى منكم.

ثم الجواب عن هذا، وعن قوله: كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء من وجوه:

أحدها: أن هذا كان متقدماً، ثم نسخ الله ذلك، وشرع له مخالفة أهل الكتاب، وأمره بذلك، وفي متن الحديث: أنه سدل شعره موافقة لهم، ثم فرق شعره بعد. ولهذا صار الفرق شعار المسلمين، وكان من الشروط على أهل الذمة أن لا يفرقوا شعورهم، وهذا كما أن الله تعالى شرع له في أول الأمر استقبال بيت المقدس موافقة لأهل الكتاب، ثم نسخ ذلك، وأمره باستقبال الكعبة، وأخبره عن اليهود وغيرهم من السفهاء، أنهم سيقولون: مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا [البقرة: ١٤٢].

وأخبره أنهم لا يرضون عنه حتى يتبع قبلتهم، وأخبره أنه: إن اتبع أهواءهم من بعد ما جاءه من العلم ما له من الله من ولي ولا نصير، وأخبره أن: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا [البقرة: ١٤٨] وكذلك أخبره في موضع آخر أنه: جعل لكلٍ شرعة ومنهاجاً، فالشعار من جملة الشرعة.


(١) [١١٩٤])) الذي ثبت في الصحيح وهو ما رواه البخاري (٧٥٤٢) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: ((لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا *البقرة: ١٣٦*)).
(٢) [١١٩٥])) رواه أبو داود (٣٦٤٤) , وأحمد (٤/ ١٣٦) (١٧٢٦٤) , والطبراني (٢٢/ ٣٤٩) , وابن حبان (١٤/ ١٥١) , والبيهقي في ((السنن الكبرى)) , من حديث أبي نملة الأنصاري, والحديث سكت عنه أبو داود, وقال الزيلعي في ((تخريج الكشاف)) (٣/ ٤٧): [فيه] نملة بن أبي نملة قال ابن قطان مجهول الحال وله سند آخر, وقال ابن مفلح في ((الآداب الشرعية)) (١/ ٥٢): إسناده جيد, وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (٦/ ٧١٢): إسناده ثقات رجال الشيخين غير ابن أبي نملة يقولون صدوق يحسنون أو يجودون حديثه.

<<  <  ج: ص:  >  >>